رمضان في عهدة رؤساء المخافر
سمر رمضاني (1)
لا يمكن، بل يستحيل، أن يعيش اللاجئ السوري، في إحدى الدول الأوربية، أجواءَ رمضان. هذا ما قلتُه لأبو سعيد الذي اتصل بي من إدلب، وسألني عن أجواء رمضان عندنا في ألمانيا.
وأضفتُ: ولا تنسَ أن الجو الرمضاني يحتاج إلى حركة، وأما مَن تقدم به العمر، مثل أخيك أبو المراديس، ففي رمضان، وغير رمضان، تراه معتكفاً في داره، يخشى أن يخرج إلى شوارع ألمانيا المبتلة على الدوام بماء الأمطار والثلوج، فيزحط، و(يروح على طوله)، ويصير - على حد تعبير أبي العلاء المعري – أضحوكة بين الناس!
قال أبو سعيد: وأما هنا، في إدلب، فالاحتفال برمضان جارٍ على قدم وساق، مع تطور واضح في تقنيات الحضارة، المستورَدة، كالعادة، من بلاد بره، فلو أنت نزلتَ إلى مدينة إدلب اليوم، وبدأت من أول الشارع الذي يوصلك إلى البازار، لانتابتك الدهشة، من الأضواء الملونة، إلى جانبي الطريق، والدكاكين، وكلها، بلا استثناء، تَدفع ببسطاتها إلى الأمام، وتفوح في الجو روائح عمولات الكعك المعروك المسمسم والمعمول المنبعثة من الأفران، وصفايح اللحم بعجين، إضافة إلى صواني الشعيبيات، والكنافة، والقرص ضاهري، والقطايف، ومحلات بيع القهوة التي تنبعث روائحها الزكية، فتضفي على مهرجان الروائح نكهة الهيل الحريفة..
ليس لدي تفسير علمي دقيق، ولكنني أعتقد أن إشغال البصر والذهن بما تحمله الصورة المتحركة، يُشغل المعدة عن التذكير بالخواء والجوع
- عندما حكيت، يا أبو سعيد، عن صفائح اللحم بعجين، ذكرتني بأشياء كثيرة عالقة في ذاكرتي، أولها أن أهل إدلب يجعلون هذا الطعام وجبة رئيسية في الأفراح والمآتم، على حد سواء، وذلك لأسباب عديدة، أولها أن أهل العريس الذين يجب عليهم إطعام الضيوف، تراهم منشغلين بتجهيز أنفسهم للرقص والفقش والزغاريد، لا وقت لديهم للطبخ والنفخ والسكب، وكذلك أهل المتوفى، الذين ينشغلون بالنواح والندب وتعداد مناقب الميت تمهيداً لإرسال جثمانه معززاً مكرماً إلى المقبرة، ولذلك يذهب واحد منهم إلى اللحام، ويشتري كمية مبحبحة من اللحم، ويضيف إليها البصل المفروم، ورقائق البندورة، والبهارات، ويرسلها إلى الفرن، وعندما يلتم المهنئون، في حالة العرس، أو يحضر المعزون، في حالة المأتم، يضعون أمام ضيوفهم ما صنعه الفران من الصفائح، مع كؤوس مليئة باللبن العيران، أي اللبن الرائب الذي كان الناس، في السابق، يذيبونه، ويخفقونه، ويضيفون إليه الماء، ليصبح "شنينة"، وأما اليوم فقد صارت له معامل، تعبئه في زجاجات بلاستيكية، وتبيعه للناس فتوفر عليهم مشقة صنعه.
- على الرغم من كل هذا التطور، ما زال المطرب أبو حسين التلاوي يغني: (ما أشربْ شنينة، أبوس كاس الشاي، ويلي يا ويلي). على كل حال أنا أهنئك على ذاكرتك التي تحتفظ بكل هذه التفاصيل.
- هذا من حسن حظي يا أبو سعيد، فأنا أرى أن ما يلزم للكاتب أمران: الذاكرة، والمقدرة على اختيار المادة التي يعرضها على الناس، فليس كل ما يعرفه المرء يصلح للسرد، وهناك أشياء يمكن أن تؤخذ منها عِبَرٌ سيئة، ولذلك فإن الأفضل تجنب سردها. المهم، نحن نتحدث عن الطقسين الرئيسيين اللذين يتكرران في بلادنا، على نحو شبه يومي، أقصد الأفراح والمآتم، وما يرافقهما من عادات وطقوس.. وبما أننا نتحدث عن صفائح اللحم بعجين، فلا بد أن نشير إلى أن أفضل طريقة لتناوله هي أن يُدْرَجَ القرص المستدير، فيصبح شبيهاً بالسندويشة، ويكون قضمه سهلاً، وأما المأكولات السائلة، فيكون تناولها بطريق الاحتساء، والناس عندنا، كما تعلم، لا يتحدثون بالفصحى، ويقولون عن الاحتساء (شَرْق)... وهنا نصل إلى وصف عالَم الرجال الطفرانين المليء بالطرائف، فهؤلاء يتناولون في الأيام العادية طعاماً قليل الدسم، خالياً من اللذة، لذلك تراهم يترصدون أخبار المآتم، وعندما يسمعون صوت المؤذن يصيح (سبحان مَن تَفَرَّدَ بالبقاء)، يسرعون إلى دار الميت، ويمكثون هناك ثلاثة أيام متواصلة، ويصيبون من الطعام الشيءَ الكثير، وأما الطرفة التي أحب أن أخبرك بها، فهي أن صديقنا برهوم ابتكر لهؤلاء الدراويش الذين يجوبون المآتم لأجل الطعام اسماً غريباً هو "رؤساء المخافر"، وحينما يلتقي رئيس مخفر برئيس مخفر في أحد الأزقة، يسأله:
- أين كنت؟
- في مأتم فلان، رحمه الله.
- عظيم. الطعام دَرْج (صفائح لحم بعجين) أم شَرْق (شاكرية)؟
فإذا بَشَّرَهُ بأن الطعام دَرْج يتركه ويهرول باتجاه دار الميت لـ(يدرج) ما يتيسر له من الصفائح.
تدخل أبو سعيد، وقال: اسمح لي بتعليق، أعود من خلاله إلى شهر رمضان، وسأعلمك، مع بالغ الأسف، أن الخيرات التي كانت توضع على موائدنا، بعد 13 سنة من الحرب، لم تعد كما كانت من قبل، وما عاد الناس يستطيعون تأمين طعام (دَرْج)، ولا حتى طعام (شَرْق).. وأنت تعلم أن معظم الناس، في السابق، كانوا عفيفي النفوس، إذا قُدِّمَ لواحدهم الطعامُ في مأتم ما، يكتفي بتناول قرص لحم بعجين مدروج، مع نصف كأس عيران، ويقوم ويقول لأهل الميت (الله يرحمه)، وأما مَن يسميهم صديقنا برهوم "رؤساء المخافر" فيأكل الواحد حتى يقب إبطاه.. ولكن اليوم؛ وبسبب هذا الفقر الرهيب، نكاد كلنا نتحول إلى رؤساء مخافر، فقد صرنا نأكل في المآتم ببسالة واجتهاد!
- جميل أن تأخذنا الذاكرة، يا أبو سعيد، باتجاه الماضي، وهذا دأبنا مع شهر رمضان دائماً، فهو شهر الذكريات، إضافة إلى أنه شهر الدراما، بل والكوميديا.
- صحيح، والأصح أنه شهر التلفزيون عموماً، فالإنسان الصائم يصبح لديه هوس بالفرجة على أية صورة تتحرك أمامه، وبالأخص في فترة بعد العصر، فما تفسير ذلك برأيك؟
- ليس لدي تفسير علمي دقيق، ولكنني أعتقد أن إشغال البصر والذهن بما تحمله الصورة المتحركة، يُشغل المعدة عن التذكير بالخواء والجوع، ولو لم يكن هناك راديو وتلفزيون لرأيتَ الناس يخرجون في فترة قبل المغرب إلى الشوارع، ليتفرج بعضُهم على الآخر، ويتشاغلوا ببعض الكلام، حتى ولو كان كلاماً سطحياً، فإذا سأل زيدٌ عمراً كيف حالك وكيف أولادك؟ وأجاب عمرو بأن أحد أبنائه مريض، يطلق عليه زيد وابلاً من الأسئلة التفصيلية النافلة، وكل هذا من أجل تزجية قليل من الوقت، وكلاهما تائقان للوصول إلى اللحظة الحاسمة، لحظة الأذان وسماع صوت مدفع الإفطار.