رسائل إلى أمي المفقودة في غزّة
إذا لم أكتب الآن عن غّزة، فمتى؟ إذا لم أحكِ الآن عن حُبِّ غزّة، فمتى؟ أنا ابنتها التي استنشقت هواءها قبل أيّ شيءٍ، وعلى الرغم من سنوات الغربة الطويلة، لم يفارقني حبّها يوماً، وظلّت ذكريات طفولتي فيها مصدر فرحٍ وأمان.
هذا هو الوقت الذي أقف فيه بكلِّ ما بداخلي من قوّةٍ، أقاوم بالوسيلة التي منحني الله حُبّها؛ الكتابة. أليس بهذه الوسيلة، قاوم كل من غسّان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وسعيد وغيرهم من العظماء الذين نقشوا اسم فلسطين على أشجار الزمن، ضاربين بعرضِ الحائط كلّ الروايات التي نشرها الطغاة عنا وعنها؟
ولكن معضلةً كبيرةً تُعيقني. مأساةٌ أعيشها لا يعرفها الكثير، ومن يعرف لا يفهم ولن يفهم ماذا حصل بداخلي، وما أعيشه في كلّ لحظةٍ.
لقد رحلتِ يا أمّي، هكذا فجأة، ومعكِ رحلتُ بالفكر والقلب، وظلّ هذا الجسد يجاهد كي يعيش. لقد قُتل جزءٌ منّي في هذه الحرب، وبقيت أشاهد أحداثها بعينين مفتوحتين وروحٍ مطفأة تأبى أن تشتعل من جديد.
أمي، أهذه حماقةٌ أن أكتب لكِ؟
أهذه مضيعةٌ للوقت أن أسألكِ لماذا رحلتِ؟ والسؤال الأهم، الذي يغرز سكينه في جرحي المفتوح، ويُقطِّع شراييني، كيف رحلتِ؟
إنّ يدي تكتب ما لا يتصوّره عقلي، ولا يحتمله قلبي، أشعر وكأنني أهذي
إنّه قدرٌ قاسٍ جداً يا أمي، أن تكوني مفقودةً في غزّة منذ ثمانية أشهر، وألّا يعرف أحدٌ ماذا حصل معكِ، أو أين كنتِ بالتحديد لحظة قُصِف منزلك، أو أين أنتِ الآن يا أمّي؟
ألّا أعرف مكانكِ، حيّةٌ ترزقين أم شهيدة، كاملةٌ أم بقايا؟
أحقيقيٌ ما أكتبه يا أمّي؟ هل حصل ذلك فعلاً؟ إنّ يدي تكتب ما لا يتصوّره عقلي، ولا يحتمله قلبي، أشعر وكأنني أهذي. لا يمكن أن يكون هذا قد حصل. هكذا خدّرت نفسي طويلاً، طويلاً جداً. لقد مضى مئتان وأربعون يوماً على هذا الحدث الجلل، كلّ يومٍ مرَّ كأنّه كابوس. مأساةٌ لم ترتقِ لها كلّ روايات التراجيديا ومسارح الدراما وأنواع الأدب بمختلف اللغات والأشكال والأزمنة. أن أفقدك إلى الأبد، دون وداع، دون أن يظلّ لي ذكرى من حاجيّاتك وتفاصيل بيتك، ودون أن يكون هناك شاهدٌ يذكرني بمرقدك الأخير، إنّه والله لابتلاءٌ كبير.
هل كنتِ تتصوّرين أن يكون هذا العَبث جزءاً من قصّتنا؟ أنا الفتاة التي قلتِ لها "إنتِ طيبة وبريئة يا ماما، وقلبك متل الأطفال"، أيحتمل قلبُ الأطفال كلّ هذا؟ أخبريني بالله عليكِ، أيحتمل أيُ قلبٍ كلّ هذا؟ إنه ألمٌ بحجم الكون، أختزله في أعماق صدري، والله وحده يعلم كم مرّةً في اليوم أودّ أن أسقط على الأرض، كلّما تأملت تلك اللحظات الأخيرة، ولكن قدماي تحملاني بأعجوبة كي أكمل هذه الحياة بكلّ ما حكمت وقضت.
أن أفقدك إلى الأبد، دون وداع، دون أن يظلّ لي ذكرى من حاجيّاتك وتفاصيل بيتك، ودون أن يكون هناك شاهدٌ يذكرني بمرقدك الأخير، إنّه والله لابتلاءٌ كبير
إنّ حياةً تخلو منك يا أمي، هي في الواقع ليست "حياة" بالمعنى الكامل للكلمة. إنّها حياةٌ مبتورة، فارغةٌ من الدافع والحافز والهدف، ومليئةٌ بكلّ ما لم أختبره من قبل: الصمتُ المؤلم والكثير من الصدمة، والحسرة، واللوعة، والفقد. وبمناسبة اللوعة والفقد، إنّهم يقتلوننا من جديد يا أمي، في كلّ صباحٍ، وفي كلِّ مساء. هل تعرفين هذا؟ لا تحتاج إبادتنا عن وجه الأرض "حرفياً" سوى إلقاء بضع صواريخ أميركية الصنع عملاقة، وإصدار تقريرٍ مختصر، يفيد بوجود سببٍ لإلقاء هذه الصواريخ على رؤوسنا. هل يهمّك أن تعرفيه؟
حسناً يا أمي، لقد اكتشفوا من مصادرهم وجود عناصر من المقاومة، أو بمعنى آخر، شبابٌ يدافعون عن بقايا المدينة. ما رأيكِ بهذا السبب يا أمّي؟ هل اقتنعتِ الآن؟ هل سيخفّف هذا من حزنكِ على تلك الطفلة التي رحلت وهي نائمة بملابس مهترئة في حضن أمها؟ هل ستكفّين عن البكاء لأجل رضيعٍ وُضِّعت حفاضته بجانب رأسه المهشّم؟ أو لعلك بعد أن عرفتِ السبب لن تتعاطفي كثيراً لوجود دراجة ملوّنة مُلقاة بجانب الخيمة، تنتظر ذلك الولد المشاكس الذي كان سيأتي في الصباح كي يقودها ويجلب بها الماء لعائلته قبل أن ينزحوا للمرّة العاشرة.
إنّهم يقتلوننا من جديد يا أمي، في كلّ صباحٍ، وفي كلِّ مساء. هل تعرفين هذا؟
أمّي، هل لأجل هذا رحلتِ باكراً؟ لأنّ حجم الكذب والفجور في هذا العالم وصل عنان السماء واخترق جدار الصوت والصمت والموت؟
أمّي، لا أعرف إن كان هناك درجاتٌ للألم، ولكنّي أعرف أن هذا الألم لا يشبهه شيءٌ في العالم كلّه، وأنّ الغصّة في حلقي لا تزول.
ولولا إيماني العميق بحياةٍ قادمة، حقيقية، وأبدية، وعادلة، ينال فيها المظلوم حقّه كاملاً حتى لا يكاد يذكر الظلم الذي حصل، لكنتُ هُزمت منذ زمن. إنه "الإيمان" يا أمّي. وللمفارقة، إنّه اسمك أيضاً.
إنّه رجائي من الله أن أحضنكِ من جديد، يوماً ما.
أن أسمع اسمي من فمك.. يوماً ما.
أن تخبريني ماذا حصل في تلك الليلة المشؤومة.. يوماً ما.
أن أعيش دهراً معك يعوّضني عن سنواتٍ طويلة من الفراق.. يوماً ما.
أن نضحك معاً على كلّ ما حصل.. يوماً ما. فليرحمكِ الله أينما كنتِ وكيفما كنتِ، يا حبيبة روحي. يا "إم فرح".
وليرحم الله غزّة بكلّ ما فيها وكلّ من فيها.