رحلة صندوق الإعانة

24 ديسمبر 2023
+ الخط -

تحوّلت رحلة صندوق الإعانة إلى رحلة طبيعية من صلب الحياة اليومية للسوريات، وليس غريباً أن يضم طابورُ انتظار لاستلام صندوق الإعانة نساء، بنسبة تساوي ثلاثة أضعاف عدد الرجال، لدرجة أن ارتباط حضور النساء في طوابير التسجيل أو استلام الإعانات تحوّل إلى قاعدة عامة.

على باب أحد المصارف الذي يوزع مساعدات مالية أحصيت أعداد النساء، وكان الرقم مائة امرأة مقابل أربعة عشر رجلاً. وغياب الرجال ليس بسبب نقص أعدادهم أبداً، بل بفعل انشغالهم في أعمال تقتضي الدوام المتواصل لساعات النهار كافة، وربما الليل برمته.

كما أن ازدياد عدد النساء يعود لأن النساء قد تحولنّ إلى معيلات لعوائلهن في ظل غياب الرجال أو اختفائهم من الحياة نهائياً، أو حتى في ظل وجودهم. فالإعالة هنا لا تشترط غياب الرجال فقط، بل تعني عملياً اضطلاع النساء بجميع المهام العائلية بصورة شبه تامة.

جرى إعلام بديعة بوجود صندوق إعانة باسمها كتقدمة عن روح أحد الأشخاص بمناسبة الأعياد، سألت فوراً السؤال المعهود: "ما هي مكوناتها؟". وأردفت بسؤال بديهي أيضاً: "هل أستطيع الحصول على صندوق لعائلة ابني؟". لقد اعتاد الجميع على ترشيح أسماء أخرى للحصول على صناديق مماثلة وسيلة لتثبيت هذه الأسماء في قوائم المساعدات التي تراجعت بصورة كبيرة جداً. تقول بديعة: "إذا استطعت تأمين صندوق لعائلة ابني سأتمكن من الاحتفاظ بمحتويات صندوقي الخاص. ولن أضطر لتوزيعها مناصفة بين عائلتي وعائلة ابني".

ارتباط حضور النساء في طوابير التسجيل أو استلام الإعانات تحوّل إلى قاعدة عامة

تتبادل النساء محتويات الصناديق بسلاسة جرى التوافق والتعود عليها بحكم الضرورة، فالعائلات التي تضم مرضى مصابين بالسكري تبادل البرغل بالأرز، وتلك التي لا تستعمل السمن النباتي في الطهي تبادله بالزيت النباتي خاصة، إذا ما ضمت هذه العائلات مصابين بالأمراض القلبية أو فرط الشحوم والكوليسترول.

كما تدربت النساء تحت ضغط الحاجة على الإبداع في عمليات التبادل والتعامل مع الصندوق كمورد اقتصادي أساسي لا يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن تجاهل أثره أبداً، لذلك بات السؤال عن إمكانية الحصول على صندوق إعانة أمراً طبيعياً ومفيداً وغير قابل للوصم أو الاتهام، حتى إن المجتمع والمانحين مهما تعددت مشاربهم وهوياتهم باتوا شبه متقبلين لفكرة التبادل أو البيع لكسب مبالغ نقدية تحتاجها العائلات في مجالات أكثر ضرورة.

وهنا الطامة الكبرى، عندما يضطر الناس إلى التنازل عن مواردهم الغذائية الأساسية مقابل حاجات أكثر ضغطاً، في ظل غياب شبه تام وواسع للموارد الاقتصادية بمختلف أشكالها..

في الحافة الصغيرة شبه المهترئة اضطرت سهام لأن تجلس على المقعد الجانبي الضيق وصندوق الإعانة موضوع على ركبتيها لضيق المكان، وتعذر توفر كلفة سيارة أجرة لنقله، فجأة تحول الصندوق إلى بطل الساحة، التفت الكل نحو سهام، وتتالت الأسئلة آمرة إياها بفتحه ليتعرف الجميع على محتوياته، وعلى عدد الأكياس من كل نوع أو وزن الكمية الممنوحة لبعض الأصناف الأساسية، خاصة الأرز والسكر.

طالبها الجميع برقم هاتف مصدر الصندوق، وسألوها مراراً عن كيفية التسجيل، ومدة الانتظار للاستلام، وعدد مرات التوزيع، وعن الوثائق المطلوبة للتسجيل. لم ينسَ الجميع تهنئة سهام بالحصول على الصندوق وكأنه غنيمة قيّمة وثمينة، حتى إن أحدهم وبدقيقتين قام بحساب قيمة كل محتويات الصندوق وكأنه تاجر خبير في التسعير في سوق الهال. كما لم يبخل أحد بترديد عبارة: "تأكلوهم بالهنا" أو "الله يكتر الخير"، أو "والله كلنا بدنا كذا صندوق لنكفي حالنا".

تضحك الوجوه لمرأى تلك الصناديق الصغيرة، وينتظر بعض السماسرة على أبواب مراكز التوزيع ليشتروها دفعة واحدة ومن ثم معاودة بيعها، إما بالمفرق أو بالجملة، لكن مقابل أرباح مجزية. مظلوم هذا الصندوق الذي تتلاعب فيه الأيادي، والذي يحاول الجميع التقليل من قيمته الفعلية، لأنه لا يعادل إلا غيضاً من فيض من الاحتياجات، ولأنه مجرد بحصة تسند الجرة المترنحة والقابلة للانزياح والمهددة بالكسر ليس إلا. والجرة هنا توازي حياة الشظف، والتي يعيشها السوريون/ ات في غالبيتهم.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.

مدونات أخرى