"رابعة"... تنادي على كلّ واحد في مصر
قبل عشر سنوات حدثت مذبحة، بعدها بأشهر قليلة غادرت مصر التي لم تعد محروسة، وبعد أشهر قليلة أُكمل عقداً كاملًا من "النجاة". مع حلول أغسطس/آب من كلّ عام، تئن روحي وينقبض قلبي، وتخور قواي. يحدث هذا بشكل تلقائي مهما تجاهلت وحاولت إشغال نفسي أو إذهاب عقلي.
في كلّ عام، كنت أحاول إحياء الذكرى بطريقتي، أرتدي "تي شيرت" عليه علامة رابعة، وأتجوّل في الشوارع، وأمارس حياتي العادية، أفعل هذا لثلاثة أو أربعة أيام متتالية، كأنّي أقدّم عزائي لكلّ صاحب مصاب، ولنفسي أيضاً.
لم أكتب في هذه السنين سوى مقال "جنيه من جيب محمد أهداه لي حسن"، (محمد هو أخي الأكبر الذي قتل في مثل هذا اليوم برصاص الشرطة والجيش المصريين، وهو يبحث عن ابنه المعتقل، وحسن هو شقيقي الأصغر الذي كان معتقلاً وقت الكتابة). ولا أدري لماذا أكتب اليوم، ولو بشكل هامشي عن هذا الجرح، ربّما المفاجأة من مرور عشر سنوات، رقم كبير بالنسبة لي، لكنّي قرّرت التجاهل في محاولة يائسة مني لقفزة نفسية، ولو صغيرة تحافظ على بعض الاتزان.
خرجت من المنزل في طريقي إلى العمل، لا أنوي سوى ممارسة مهامي المعتادة. حرصت طوال الطريق على أن أتجاهل وسائل التواصل، لكي أخفّف عن نفسي وجسدي ما يحدث لهما في كلّ عام. وقبل النهاية بقليل، أرسل أحد الأصدقاء رابطاً لتقرير صحافي بعنوان "طمس الحقائق..من الأوراق الرسمية لعملية فض اعتصام رابعة". ضغطت الرابط لأقرأ، وحينها انهار كلّ شيء كان يحاول مقاومة الذكرى، لِمَا في التقرير من حقائق تُنشر لأوّل مرة، والمؤلم فيها أنّ التقرير أعدته لجنة حكومية، لكنه طُمس واختفى، وكأنّ الجميع تكالب على طمس دمائنا.
جلست في أحد المقاهي، ورجعت برأسي إلى الخلف، وقلت ما الذي تبقى في ذاكرتك من وعن رابعة؟.. لم أجد الكثير، وهذا صدمني في نفسي كثيراً. حاولت أن أحفر أكثر، حتى تذكرت مشاهد قليلة... ثم أخذت أردّد "وصابر وإيه بس آخرك يا صبر"!
بلدنا في محنة حقيقية، طاولت المؤيد قبل المعارض، فلم يكن في يد النظام سوى المزيد من توسيع دائرة القمع والقهر، ولم يعد يستحي أو يخشى تقلّص شعبيته
منذ بداية أغسطس/ آب الحزين هذا العام، وهذه الكلمات التي غناها الشيخ إمام، تتردّد في أذني صباح مساء، ومع كلّ يوم يمر أقترب فيه من ذكرى مذبحة ومجزرة رابعة العدوية، وذكراها العاشرة، يتحوّل الصوت إلى طنين حد الإزعاج!
مطلع الأغنية يقول:
"بنادي على كل واحد في مصر
ندايا أنا لكل بيت مش لقصر
بلدنا في محنة .. نظامها دابحنا
وواجبنا احنا .. نصونك يا مصر"
أفتح تطبيق الأغاني وأسمعها بصوت الشيخ إمام وبأعلى درجة صوت، وأسمعها من كلّ من غناها غيره، ولا أدري لماذا، لكنها فيما يبدو كانت محاولة لإحياء ذكرى المجزرة وتجرّع الألم مع مسحة من الأمل، لأنّ الأغنية سكنت في جزء من الذاكرة المرتبط بثورة يناير، حيث كان الأمل، عندما صعد أحد الشباب في الإسكندرية إلى المنبر وأمسك الميكرفون وأخذ يردّدها في المسجد، لحشد الناس للخروج إلى الثورة.
هذا المزيج جعلني أفكر عندما حلّت الذكرى أول أمس فيما أريد كتابته، بعيداً عن اللطميات، فكرّرت سماع الكلمات وأنا أتحرّك من المقهى، وأخذت أردّدها بصوتٍ عال في الشارع، وبشكل تفاعلي وأنا أسير متخبّطاً في طرقات عاصمة الضباب.
لا تتمادوا بعد العشرية في الخصومة، نحن شعب واحد لا شعبان
فكتبت مستوحياً من "بلدنا في محنة .. نظامها دابحنا": إن كان لي من رسالة بعد عشر سنوات، فهي دعونا نحنو على بعض، اتركوا المنتفعين من بقاء الدم، سواء كانوا مؤيدين للنظام، أو معارضين له. وتأملوا في هذا المثل الذي أتناوله بشكل مخل، لكنه في تقديري يوضح ما أودّ قوله.. عندما حدثت الأزمة الخليجية بين الأشقاء، انحاز كلّ شعب خلف حكامه، وأوجعت الشعوب بعضها بالكلمات، بعدها قرّر الملوك والأمراء التصالح، وفجأة وجدت الشعوب نفسها أمام موقف محرج، بعدما أوغلوا وفجروا في الخصومة! لم يأخذ أحد رأي شعبه عندما قرّروا المقاطعة، ولما يأخذوا رأيهم عندما قرّروا التصالح. ونحن هكذا أيضا، انحزنا ضد بعضنا على حساب عدم القدرة على مواجهة الفاعل الرئيسي، ولم ولن يأخذ أحد رأينا في شيء أيضا.
ولأجل هذا على الشامتين في الدماء بعد عشر سنوات من المجزرة أن يراجعوا أنفسهم، وعلى الشامتين في الأوضاع الاقتصادية للآخرين أن يراجعوا أنفسهم. فالنار عند اشتعالها تأكل الأخضر واليابس، ولا تفرق بين ضحية ومخدوع. فهذا الألم هو ألم الجميع، نحن وأنتم وهم، وكلنا اكتوينا بناره بـ"غمة لا تفرج". فلا تتمادوا بعد العشرية في الخصومة، نحن شعب واحد لا شعبان.
"بنادي عليكم يا كلّ الجموع
في مصر الشوارع .. في مصر النجوع
في مصر المزارع .. في مصر المصانع
بلادنا حتبقى تيجان المحبة
وفيها الأحبة تيجان كلّ عصر".
بلدنا في محنة حقيقية، طاولت المؤيد قبل المعارض، فلم يكن في يد النظام سوى المزيد من توسيع دائرة القمع والقهر، ولم يعد يستحي أو يخشى تقلّص شعبيته. فإذا لم نناد جميعاً على بعضنا، ونعرف أنّ نجاتنا جماعية، فستبقى هذه المحنة، فالجراح يعتقها الزمن. سيرحل هذا النظام في وقت ما، وسنبقى نحن، ولن ندرك خطيئتنا، إلا وهو يتركنا في مواجهة حامية مع بعضنا البعض.