ذات طريق ومواطن
عبد الحفيظ العمري
ذات صباح في مدينة إب اليمنية، وجدتَ نفسك تتمشّى في أزقة المدينة القديمة، ويداك معقودتان خلف ظهرك، في لا مبالاة أشبه بهذا الزمن!
تسمع صدى خطواتك في هذا الصباح الباكر، التي لا يقطعها إلا أصوات مختلطة قادمة من السوق القديم. وبالرغم من أنّ الوقت ما زال باكراً، فإنّ الحياة قد دبّت في السوق القديم، بشكل أشبه بهمهمة في فصل دراسي! وأنت تخترق هذا السوق بشكل يومي في طريقك نحو عملك.
تشاهد المناظر نفسها كلّ صباح؛ صاحب الزلابيا (ليست الحلوى المشهورة في بعض الدول العربية، بل أكلة يمنية؛ عبارة عن عجينة تُنَضّج في زيت مغلي وتُؤكل مع أي صبغ) وموقده المشتعل، والحوانيت الصغيرة، التي لا تكاد تفتح أبوابها في تلك الساعة المبكرة، باستثناء الحاج الرعوي الذي يفتح دكانه باكراً، ذلك الدكان الذي ظلّ فيه منذ ثلاثين سنة حتى اليوم، وهو يلتقط النقود من الأطفال بخشبة ممدودة، مُثبّتٌ في طرفها ما يشبه إناء!
تمتد هذه الطريق المَصْلُولَة (أي المعبَّدَة بحجارة مسطَّحة) من ساحة صغيرة غرب الجامع الكبير إلى سوق المدينة القديمة، مخترقة نفقاً صنعه تلاصق بيتين متجاورين، وهذه سِمَة موجودة في بعض بيوت المدينة القديمة، حيث تتلاصق البيوت مع بعضها البعض صانعة نفقاً تحتها!
ثم تتواصل الطريق للغرب قليلاً، لتتفرّع إلى فرعين: أحدهما ضيق على اليمين يفضي إلى مطاعم شعبية تراصت نهاية الفرع الضيق، لعل أشهرها مطعما "الصامت" و"العرومي".
أما الفرع الآخر جهة اليسار، وهو الأوسع، فيمتد ليلتقي مع الفرع الضيّق في السوق القديم، أو ما يسميه الأهالي السوق الأعلى، وهم ينطقون (الأعلى) بالياء، وليس بألف مقصورة، إضافة إلى أنهم يكسرون اللام (يبدو لتكون مناسبة مع الياء)!.
طبَعتنا العادة والأُلفة، وما حياتنا إلا تكيّف مع عاداتنا وأُلُفاتها
سُمي السوق بالأعلى تمييزاً له عن سوق آخر موجود خارج سور المدينة القديمة، إلى الأسفل منها، وهو السوق المركزي.
يستمر الطريق في امتداده حتى يبدأ بالانحدار غرباً، فيمرّ تحت عقد الباب الكبير، أحد أبواب المدينة القديمة الخمسة، إذ كان هناك سورٌ يحيط بالمدينة القديمة في فترة حكم الإمامة، يفصلها عن بقية أجزاء "إب" الأخري، التي كانت مجرّد أحراش وأودية، قبل أن يخرج الناس عن نطاق هذا السور، ويستوطنوا هذه المناطق في ستينيات القرن العشرين، مع قيام ثورة 26 سبتمبر.
لا تزال آثار السور باقية، وكذلك عقود أبوابه الخمسة.
يتابع الطريق انحداره حتى يصل للسوق المركزي، لكنّ له في بداية انحداره تفرّعاً جهة اليمين، عبارة عن درج حجرية متراصة، تتواصل هبوطاً لتُفضي إلى السوق المركزي أيضاً.
هذه طريقك اليومية التي ظللتَ تعبرها لأكثر من عقد ونصف، في آلية جعلتْ منكَ روبوتاً بشرياً ببذلتك السوداء دون رباط العنق الذي تنفر من لبسه، بيد أنّ صباح هذا اليوم لم يكن هناك دوام، بل كان خروجك بحكم العادة والألفة التي لازمتك.
ها أنت تهبط الدرج المفضية للسوق المركزي، لكن تتوقف في منتصف الدرج مُصوّباً النظر إلى البعيد، لتشاهد معالم تلوح لمدينة حديثة هناك، ثم تواصل نزولك الدرج.
كنتَ مرتدياً الجَنْبِيَة (الخنجر اليمني المشهور) والثوب والغُتْرَة المسدولة على الكتفين من فوق الكوت، ذلك الزي الشعبي الذي ظللت ترتديه منذ أن عرفتَ نفسك شاباً.
إلى أين؟ إلى لا مكان!
مجرّد تجوال لا هدف له سوى التجوال لذات التجوال، ولسان حالك كما قال مولانا البردّوني:
أو قلْ: ما اخترتُ ولا اخترتم... طبَعتنا العادةُ والأُلفة
نعم، لقد طبَعتنا العادة والأُلفة، وما حياتنا إلا تكيّف مع عاداتنا وأُلُفاتها.