دم القلب ليس كدمع العين
تشير عقارب الساعة إلى العاشرة مساء. إنّه الموعد الذي قرّر فيه العدو مجدّداً أن يسرق الحياة ممن سرق أرضهم من قبل. انطلقت صافرات الإنذار (أو بالأحرى صافرات الموت)، وهي تقول: "أيها الناس الموت يلاحقكم ففروا إلى حيث الحياة".
الموت يلاحقنا فهذه حقيقة، أمّا أن نفر منه فهذا وهم، إذ قال تعالى: "قل إنّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم"، فضد الحياة قد سبقنا إلى خطّ النهاية، ينتظر وصولنا، كي يهنئنا بعناقٍ ينتهي برمي التراب فوقنا. مهما طالت المسافة فالموت واقع والفراق حاصل. فقط، تختلف صور رحيلنا بين من يستقبل القبلة وهو تائب، وبين من يستقبل عكسها فيحني رقبته إلى إله الدنيا، وبين هذا وذاك ينتصر من فاضت روحه وقد ظفر بالشهادة.
انطلقت تلك الصافرات لينطلق معها وابل من المتفجرات يبدو أنّها فقدت صوابها، فأصبحت تسير يمنة ويسرة بلا هدى ولا صراط مستقيم. ولأوّل مرّة أجد من ينتصر للنسوية فيحقّق مطالبها، ذلك أنّ صواريخ الاحتلال لم تفرّق بين جسد ذكر أو أنثى فأسقطتهما معاً، ولم تميّز بين روح صبي أو صبية فساوت في طريقة التهامهما معاً. وفي تلك اللحظة بالذات انتصب الخوف أمامي، رأيته جسداً يمشي، بل يفرّ ويجري. أصبح عيناً تبكي، ولساناً يشكي، ويداً تستنجد، وقلباً ينبض... لقد أصبح الهلع كالإنسان، والأصح القول أضحى إنساناً بإسقاط كاف التشبيه.
صواريخ الاحتلال لم تفرّق بين جسد ذكر أو أنثى فأسقطتهما معاً، ولم تميّز بين روح صبي أو صبية فساوت في طريقة التهامهما معاً.
هذا المشهد لمن هم خارج غزّة، هو حدث تضيق لرؤيته القلوب، وترتعد لبشاعته النفوس، وتسيل من هوله الدموع، فتصبح بحاراً لا ساحل لها. وأما في غزّة، فقد وجدت الضائقة قلوب الأهالي كالصخر، وأرواحهم تموت لكي تحيا. اختلفت ردّة فعلهم قبل القصف وبعده، اجتمعوا على الثبات وابتلاع الصدمات، وأظهروا للعدو أنّ الحياة جهاد والموت شهادة. فتعجبت نفسي من لسانهم الذي يلهث بالحمد، ومن وجههم الذي احتفظ بالابتسامة، رغم أنّ حالهم أدعى للسخط وعدم الرضا.
قبل القصف رأيتهم يستعدون لارتداء الكفن، كانوا فعلاً على حافة الموت. من العائلات من آثرت البقاء في منزلها الذي أصابه نصف الشلّل، فلم يبق منه شيء صالح إلا جزءاً صغيراً بات موعد انهياره قريباً لا محالة، فأتذكر العم محمود الذي كان يردّد دائماً: "جدران بيتي قبري ولن أهرب كالجبان خوفاً من رصاص الاحتلال".
أمّا النساء الشجاعات والقويات الإرادة، فهن يمضين أغلب الوقت بلباسهن الشرعي، وكأنهن يقلن للاحتلال البليد "حياؤنا ملكنا، وعفتنا جمالنا، فمهما كدتم لن نبدي من زينتنا إلا ما ظهر منها". أمّا الأطفال، فلا طفولة لهم، فجرة القلم حكمت عليهم بالانتقال من سن الربيع إلى سن الخريف منذ صرختهم الأولى، ومن العجب أن رضيع غزة يقاوم ومقاومته شهادته، أما إذا كتبت له الحياة فصغير غزة يرضع من حليب أمه حب الأرض، وبدل أن تمد إليه العصا ليلاحق بها أقرانه، تعطى إليه الحجارة ليأخذ دروسه الأولى في كيفية دك العدو.
أطفال غزة يعيشون أحلام غيرهم في جغرافية أخرى، واقع ذلك أن طقوس لعبهم تغيرت، فلم يتقمصوا دور العريس وزوجه وهم في أهم أيام حياتهم، بل رفعوا أحداً بينهم فجعلوه فوق أكتافهم شهيداً وهم يكبرون. صدق من قال إن القسمة غير عادلة، وأصدق من قال إن الصغار خيال لمن يكبرهم سناً يتبعونهم في حركاتهم، وسكناتهم، وفي وفائهم كما في خذلانهم.
انتهى القصف فعم الغبار أرجاء المكان، وكاد أن ينقطع الرجاء، انقلبت الموازين، فالأصل أن يكون الإنسان فوق البناء، أما الآن فالبناء فوق الإنسان، كم من قصة جميلة انتهت فصولها ورفعت ذكرياتها بسقوط منازل شيدت لدخول المتحابين فشهدت أيام فرحهم، كما سجلت أيام قرحهم، وكم من طفل مات تحت أنقاضها فأخذ معه البهجة التي خلفها خروجه من العدم. انتشرت فرق الإسعاف كل يجود بما ليس لديه، فخناق الاحتلال لم يترك لهم حتى الأدوات البدائية التي تستعمل في الإسعافات الأولية.
انتهى القصف فعم الغبار أرجاء المكان، وكاد أن ينقطع الرجاء، انقلبت الموازين فالأصل أن يكون الإنسان فوق البناء، أما الآن فالبناء فوق الإنسان
اختلفت تعابير الخلق بين من تلمس جسده فوجده حياً، فزادت فرحته لما رأى أقرب الناس إلى فؤاده ما زال يتنفس الهواء. وبين من جن جنونه وهو يحمل أشلاء من كان بالأمس يرقد إلى جانبه.
من بين كل هذا لفت انتباهي رجل ذو لحية طويلة وكثيفة، لو رأيته في غير هذا الموضع لقلت عنه إنه رجل لا يفقه في معنى الحب شيئاً، ولرجمته بلفظ الفظ الغليظ القلب. أبصرته يحمل بين يديه الرحيمتين ملاكاً لا يتحرك، فهمت من عدم حركته أن روحه عبرت حدود الأرض وحلقت متجاوزة حدود السماء إلى حيث ينعدم الشر ويسود الخير، لكن الغريب أن تصرفات الرجل لم توح بأنه يحمل فلذة كبده وهي هامدة بين يديه، فتساءلت أي رجل هذا الذي لا ينهار فيسقط ويبكي ويلطم وجهه لما يرى جزءاً منه قد فارقه؟ كيف استطاع أن يبقى ثابتاً واقفاً وخياله يردد أحداث أن ابنته تلقت ضربة أفقدتها حياتها وبدرجة أولى حياته؟ فلم أخرج بنتيجة إلا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأن الله سيجزي الصابرين.
والحقيقة أنها لم تمت بل كانت حية في وجدانه، ونحن نرى موتها، أما هو فيرى نومها، لذلك كان يقبل عينيها، كما أنه لم يبق حياً فقد ماتت روحه ولم أبصر سوى جثته.