دراسة عن ثروة هيكل وتأثيره (3/3)

11 اغسطس 2021
+ الخط -

يرى جمال الشلبي أن أقوال مايلز كوبلاند أو اعترافاته ـ كما أحب أن يسميها ـ سواءً كانت حقيقة أو كاذبة فإنها قد حققت هدفها في التشكيك بالتجربة الناصرية وبهيكل، وساعدت على ذلك حملات الصحف اللبنانية وبخاصة مجلة (الحوادث)، التي كان هيكل قد قطع الدعم الناصري عنها، ولذلك فقد انتقمت بشن حملات عديدة كان على رأسها حوار اجراه رئيس تحرير الحوادث سليم اللوزي مع الرئيس محمد نجيب قال فيه إنه عندما كان رئيساً رفض أربع مرات لقاء هيكل، لأنه كان يمتلك معلومات زودته بها أجهزة الاستخبارات المصرية تقول إن هيكل هو عميل للاستخبارات المركزية الأميركية، ويلاحظ الشلبي أنه بالإضافة إلى وجود كراهية يكنها محمد نجيب لمحمد حسنين هيكل بسبب الموقف الذي اتخذه ضده خلال صراعه مع عبد الناصر، فإن نجيب في كتابه (كلمتي للتاريخ) لم يشر من قريب ولا من بعيد لما نشرته مجلة (الحوادث) على لسانه، وهو ما يثير شكوكاً قوية حول صحة ما نسب إليه.

لكن مجلة (الحوادث) لم تتوقف في حملتها عند ما قاله محمد نجيب، بل نشرت ما قالت إنه معلومات وصلتها من مصادر سوفيتية تزعم أن الرئيس السوفيتي خروشوف اتهم هيكل بأنه عميل أمريكي، وكان ذلك عام 1957 خلال زيارة قام بها عبد الناصر إلى موسكو صحبه فيها هيكل، وأن خروشوف قال لعبد الناصر إن هيكل كان ينتقد الاتحاد السوفيتي معتمداً على معلومات تعطيها له السفارة الأمريكية وأنه حصل على شيكات وأموال نقدية خلال زيارته للولايات المتحدة، وهو ما نفاه هيكل لعبد الناصر وقال إن ما تلقاه كان لقاء مقالات نشرها في صحف أمريكية عن تغطيته للحرب الكورية، لكن خروشوف لم يقتنع بهذا التوضيح، فاضطر هيكل إلى مغادرة الاتحاد السوفيتي قبل انتهاء الزيارة بشكل رسمي.

حين واجه جمال الشلبي هيكل بهذه الاتهامات التي نشرتها مجلة (الحوادث)، والتي كان من الغريب أن  يستشهد بها الباحث منير ناصر في رسالته للدكتوراة عن هيكل، نفى هيكل هذه المزاعم بقوة، وقال له إن خروشوف أجرى معه حواراً طويلاً في صحيفة (الأهرام) عام 1964، فكيف كان يمكن أن يقبل بإجراء هذا الحوار لو كان يعتقد أن هيكل عميل أمريكي منذ عام 1957، كما أن خروشوف أيضاً طلب من هيكل مرافقته بشكل رسمي خلال رحلته إلى مصر للمشاركة في افتتاح السد العالي بأسوان والذي لم يكن ممكناً أن يُبنى ويكتمل لولا الاتحاد السوفيتي ودعم خروشوف لعبد الناصر، فكيف يتفق ذلك مع ما تزعمه المجلة؟ كما أضاف هيكل أنه لم ينشر أي مقال في أي صحيفة أمريكية قبل بداية السبعينيات، مما يهدم الرواية التي نشرتها مجلة (الحوادث) بشكل كامل، ويؤكد أنها كانت تقوم بتصفية حساباتها مع هيكل لأنه حرمها من المخصصات المالية في نهاية عهد عبد الناصر.

يختار الشلبي أن يختم دراسته بسؤالين لكيلا يُغلق باب النقاش حول هيكل، في أولهما يتساءل حول ما إذا كان علينا تحليل ظاهرة هيكل في السياق المصري وحده، أم تقييمها في محيط الإطار الغربي؟

يصل جمال الشلبي إلى قناعة مفادها أن الحملات التي تم شنها ضد هيكل لم تكن إلا حملات موجهة ضد التجربة الناصرية، ورداً على مواقف هيكل النقدية من سياسات السادات، وبعد أن يسرد اتهامات أخرى أكثر موضوعية وجهها لهيكل الدكتور فؤاد زكريا والكاتب محمد جلال كشك، يستعين لمناقشة تلك الاتهامات بآراء لكتاب أكثر اعتدالاً في موقفهم من هيكل مثل محمد سيد أحمد وأحمد بهاء الدين والدكتور غالي شكري، حيث يقول محمد سيد أحمد صاحب التجربة الطويلة في اليسار المصري إن عبد الناصر وهيكل "رجلان قويمان واشتراكيان لكنهما ليسا شيوعيين"، لذلك ترك عبد الناصر الباب مفتوحاً للتفاوض مع الأمريكان بواسطة هيكل، أما أحمد بهاء الدين فيرى أن هيكل لم يكن يوماً ضد الأمريكان بشكل مبدئي، بل كان ضد مواقفهم بخصوص السياسة المصرية، وأن عبد الناصر كان يريد ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة بواسطة هيكل.

يصل الباحث الأردني جمال الشلبي في ختام دراسته إلى الإجابة عن سؤال دراسته الرئيسي "هيكل.. استمرارية أم تحول؟" فيرى أن التطورات المتعاقبة في مسيرة هيكل أثارت ضده انتقادات عاصفة، فاتهمه البعض بالأصولية، واتهمه البعض الآخر بأنه انتهازي راغب في الثراء، حيث وصلت ثروته ما بين 28 إلى 38 مليار دولا ـ  يستشهد الكاتب في هذه النقطة تحديدا بالباحث منير ناصر لكنه لا يشير إلى وثائق بعينها اعتمد عليها لتحديد هذا الرقم ـ واتهمه آخرون بالعمالة للأمريكان، ووصل البعض إلى اتهامه بإقامة علاقات مع مجموعات إرهابية مثل المتمردين المغاربة، حيث أنه نشر عام 1970 خبر اغتيال المتمردين للملك الحسن الثاني عاهل المغرب على غير الحقيقة، وكما يكشف الملك الحسن في حوار له مع الصحفي الفرنسي "اريك لورو" فإن السادات قال له إن هيكل كان وراء ما حدث وأن السادات وصف هيكل بأنه "رجل عبد الناصر.. وقد كتب كثيرا ضدي وسأتخلص منه عندما أستطيع إلى ذلك سبيلا"، لكن الملك الحسن التقى بعد ذلك بهيكل فأوضح له حقيقة ما حدث بشكل أقنع الملك، لكن الملك الحسن رفض أن يفصح للصحفي الفرنسي بما دار بينهما قائلا "لقد وعدت هيكل بأني لن أفشي السر أبدا".

من بين كل هذه الاتهامات المتناقضة يخلص جمال الشلبي في دراسته إلى أن مسيرة هيكل قد تبدو متناقضة في الظاهر لكن التمحيص الدقيق لها يؤكد وجود تناغم في تفكير هيكل، وتؤكد أن له استقلاليته على المستوى الوطني والصحفي والخارجي طوال مسيرته، وأن علاقته بعبد الناصر كانت تناظرية تبادلية لا تقديسية كما اتهمه البعض، ويستغرب الشلبي من الاتهامات الموجهة لهيكل بأنه خان الناصرية وانتهج سياسات مغايرة لها، لأن هيكل في رأيه لم يكن مرتبطاً بسياسات عبد الناصر فقط، بل كان مشغولاً بأفكار عملية تتأقلم مع الظروف التي تمر بها مصر، مما يقودنا إلى الاعتراف له باستمرارية في فكره منذ المرحلة الناصرية، كما أن دعمه للسادات انسجم مع رؤيته للسادات كرجل تجديد ووسطية، لكنه ما أن رأى خطأ ذلك حتى انتقده ولم يبال بما يترتب على ذلك من آثار.

ورغم وجود نقاط سلبية في مواقف هيكل، كإثارته العنصرية في كتاب (خريف الغضب) لمسألة لون بشرة السادات وحديثه عن تاريخ السادات الغامض، وكأنه لم يكن يعرف ذلك عندما دعمه، وكذلك حرص هيكل على تقديم صورة مثالية توحي أنه لم يتورط في أخطاء الرؤساء الذين عرفهم، الا أن جمال الشلبي يرى أن دراسة هيكل تؤكد أنه كان في الغالب أميناً لذاته ومبادئه، وأن وفاءه للرئيس رجل الدولة، كان يتوقف على وفاء رجل الدولة لمبادئ الاستقلالية الوطنية وانتماء مصر إلى العالم العربي والانفتاح على الحضارة الغربية، ويعبر هيكل عن مفهومه لهذا الوفاء في حواره مع جمال الشلبي قائلاً: "لا يستطيع الكاتب بطبيعته الا أن يكون مستقلا، دون أن يعني الاستقلال غياب الوفاء، بل إن الوفاء مع الاستقلال هو وفاء لفكرة لا لشخص أو تنظيم".

ينتهي كتاب الباحث الأردني جمال الشلبي عن هيكل وقد قدم أسئلة أكثر مما قدم إجابات، وخاض في قضايا مهمة شائكة حول تاريخ مصر والوطن العربي بحسن نية لا تكفي لجعل عمله فريداً من نوعه، وربما ظلمه لقاؤه المبتسر مع هيكل وقلة المصادر المتاحة للدراسة والستار الحديدي المضروب على حقيقة الاحداث السياسية في بلادنا، لكن كل ذلك لا يبرر التجاهل التام الذي قوبل به عمله، لأنه يظل كتاباً جديراً بالقراءة والمناقشة.

يختار الشلبي أن يختم دراسته بسؤالين لكيلا يُغلق باب النقاش حول هيكل، في أولهما يتساءل حول ما إذا كان علينا تحليل ظاهرة هيكل في السياق المصري وحده، أم تقييمها في محيط الإطار الغربي؟ والحقيقة أن هيكل اجاب نوعا ما عن هذا السؤال في كتابه "بين الصحافة والسياسة" ذاكرا نماذج غربية مهمة للعلاقة بين الصحفي والسياسي. وفي السؤال الآخر يفترض الباحث جمال الشلبي أن هيكل قد بدأ الانسحاب السياسي وفقدت أفكاره تأثيرها ويتساءل هل استبعد هيكل من الساحة السياسية؟ وهو سؤال أجابت عليه العشرون سنة التالية لطرحه، مؤكدة أن هيكل لا يزال الصحفي الأكثر إثارة للجدل والنقاش والتأثير، وربما كانت العشرون سنة القادمة والتي تلت رحيل هيكل عن دنيانا هي التي ستقدم إجابة أدق على ذلك السؤال.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.