خطابات في المزراب

29 نوفمبر 2016
+ الخط -
الجلسة التي سأحدثكم عنها تشبه المؤتمرات العربية التي تتحول بعد جملتين من الحوار إلى معركة حامية الوطيس. فلقد تحدث أبو فؤاد عن دور الأم العربية في تربية الأولاد والحفاظ على كيان الأسرة وتنشئة الأجيـال و... ولكنه لم يستطع أن يكمل كلامه إذ انبرى له أبو صلاح قائلاً:

- يا أخي أمرك غريب، ألا ترانا عائفين رد السلام من الخطابات لتأتي حضرتك وتُجهز علينا بهذا الكلام الإنشائي المعلوك؟!

قال أبو فؤاد: أأنت تشكك بدور الأم العظيمة؟! لقد قال الشاعر...

فقاطعه أبو صلاح مرة ثانية قائلاً:

- يا أخي على رأسي أنت والشاعر والأم العظيمة. ولكن ما قيمة الكلام إذا كنت تبدؤه أنت وأكمله أنا من عندي؟ إن الشاعر الذي ستستشهد به هو قطعاً حافظ ابراهيم، والبيت هو:

الأم مدرسة إذا أعدَدْتَهــا

أعددتَ شعباً طيب الأعراقِ

قال أبو فؤاد مخذولاً: هو بذاته، ولكن...

قال أبو صلاح: باختصار، وحتى لا نطيل الحديث، اسمح لي أن أقول لك إنني لست ضد الأم، ولا ضد نظرية حافظ إبراهيم حـول إعدادها لتقوم بدورها في إعداد الأجيال. ولكن دعنا نمشِ في هذه القضية، على طريقة هنري كيسنجر، خطوةً خطوة. فأولاً، هذا الكلام قاعدة، ولكل قاعدة استثناءات. ثانياً، هذا كلام نظـري، والتطبيق بحث آخر. ثالثاً، (وضحك ضحكة موجزة وقال)، الظاهر أنك لا ترى الشعب الذي أعدته الأمهات المذكورات أعلاه عن كثب؟!

تدخلتُ بينهما، وقد تكهنت بالمسار الذي يريد أبو صلاح أن يدفع الحديث فيه، فقلت:

ما به شعبنا أبو صلاح؟ أليس طيباً؟

فقال بحماس: لا بل هو طيب أكثر من الحد المحمول، بدليل أننا نصدق في اليوم الواحد أكثر من عشرة تصريحات متناقضة ونتلقى خمسين صفعة على غفلة. إنني لا أريد منكم جميعاً غير أن تجيبوني عن السؤال التالي: ما الذي تستطيع أمهاتُنا فعله من أجل إعداد الشعب (الطيب الأعراق) إذا كان آباؤنا الشهريارات يعاملونهن معاملة الخدم؟ وهم الذين يمسكون بناصية القرار- وهو غالباً قرار خاطىء- ويفرضونه على الزوجات والأخوات والأولاد والبنات بالقوة والعنف؟ هل سمعتم بحكاية أسوم مع زوجها سعيد الطَبَنْجَجي؟

قلنا: هاتها.

قال: كان سعيد يزهو على أصحابه في المقهى بأن زوجته (أسوم) هي المرأة الأكثر طاعة لزوجها في العالم.

فقال له الأصحاب: كلامك كذب وادعاء.

فقال: الماء يكذب الغطاس، تعالوا معي فأقدم لكم البرهان.


وخرجوا معه، واتجه الجميع إلى بستانه حيث يصيِّف مع أسرته. فما إن رأتهم أسوم قادمين حتى وقفت بين يدي سعيد مثل عسكري صغير يقف في حضرة قائد اللواء!

قال لها: أجلسينا يا أسوم.

فمدت على المصطبة السجاجيد والمخدات للاتكاء.

قال: أطعمينا يا أسوم.

فأحضرت الغداء في الحال.

أكلوا، وقاموا ليغسلوا أيديهم، وهي حملت الأبريق وشرعت تصب الماء على أيديهم. قال لها:

- نَقرشينا يا أسوم.

فأحضرت العنب والتين والجوز والفستق الحلبي...

قال: الشاي والأراكيل (الشيشات) يا أسوم.

فأحضرتها جميعاً إضافة إلى منقل الفحم والملقط ودلة القهوة المرة.

تصدر سعيد الطبنجَجي إلى الخلف وقال لها:

- والآن يا أسوم، املئي الأبريق ماء واصعدي إلى سطح الشقة وأفرغيه في المزراب!

نفذت أسوم الأمر من دون تردد أو تذمر، مع أنها تعلم، والحاضرون يعلمون، أن الماء الذي يسكب في المزراب سوف يعود إلى الجب!

قال أبو صلاح مزهواً أكثر من سعيد الطبنجَجي، بما وضع يده على مقتل الحقيقة:

- هذا نموذج من أمهات هذا الشعب، (وأدار يده فينا حتى شمل الجميع) وحضراتكم تشكلون هذا الشعب، وأبو فؤاد هو الناطق الرسمي بالجمل الإنشائية المحفوظة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، جمل تشبه الماء الذي تمتحه أسوم من الجب ثم تسكبه في المزراب ليعود إلى الجب!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...