خرافات اليمن... أصلها وتوظيفها السياسي
أورد الأنثربولوجي، إدوارد تايلور، في كتاب "الثقافة البدائية" أنّ الخرافة هي النظير البدائي للعلم، معتبراً إياها متميزة من ناحية حل أو (على نحو أدق) تخفيف حدّة المتعارضات التي تعبِّر عنها.
ويعبّر رودولف بولتمان عن ذلك بقوله: "إن الغرض الحقيقي من الخرافة ليس تقديم صورة موضوعية عن العالم كما هو، بل التعبير عن فهم الإنسان لنفسه في العالم الذي يعيش فيه". ويرى أنّ الخرافة حين تتجرّد من العناصر الخرافية، وتتوقف عن تعبيرها عن العالم، وتصبح تعبّر عن "خبرة" الإنسان بالعالم، وتتوقف أيضًا عن كونها تفسيرًا، تصبح تعبيرًا عن "حال" من يعيشون في العالم، ولا يمكن الاستمرار في وسمها بأنها بدائية، بل تصبح شاملة. وفي النهاية لا يمكن أن تتصف بالزيف، ووفق قوله: "تصبح أقرب إلى الحقيقة؛ إذ تقدم وصفًا للحالة الإنسانية".
للخرافة تعريفات متشعبة، تصبّ في تعريف أوحد، نوجزه بالتالي: هي حل مؤقت للظواهر غير المدرَكة. لسنا بصدد مقاضاتها أو تبرئتها، وإن قصدنا ذلك، فالغرض الذي تسعى إليه الخرافة هو من يخضع للمقاضاة، وهذا الأمر، أي الفارق بين الخرافة والقصة الشعبية ليس ما نودّ بحثه هنا.
عموماً، ترتبط الخرافة بفلكلور الشعوب، وغالبًا ما تمثل إرثًا تاريخيًا، والفلكلور اليمني مليء بالقصص التي تصنّف ضمن الخرافة الشعبية بتباين مراميها.
تقول القصة الشعبية (الأكثر شيوعًا) بأنّ الآبار المكشوفة تبتلع من يقترب منها، بخاصة الأطفال. القصة هنا، تحذّر صغار السن كيلا يقتربوا من الآبار حفظًا لأرواحهم. وبالتحذير نفسه، تقول قصة أخرى، أنه إذا لم يحتمِ الصغار من ضباب الصباحات الباردة ويضعوا غطاء واقيًا على رؤوسهم، فإنّ الندى سيجز آذانهم. وتقول قصة أخرى: إذا جلس المرء على عتبات البيوت ساعة هطول الأمطار، فإنه يكون عرضة للصعق الرعدي. قيل هذا أيضًا، كي يمتنع المرء عن الجلوس على عتبات البيوت لينأى بنفسه ويحفظها من البلل.
يُسعد اليمني المؤمن بالخرافة، إذا ما اعترته رغبة مفاجئة بحكّ كفه اليسرى! ففي هذا إيحاء إيجابي يبشره بالحصول على المال. وإذا حدث العكس، أي اعترته رغبة بحك كفه اليمنى، فيقال إنه سيخرج من ماله المدخر، ويقال أيضًا إنّ أحدًا يذكره بسوء. تتفق المرويتان بأنّ حكّ الكف اليمنى لا يبشّر بخير. مرويات كهذه تكثر عادة في الأرياف، وهناك قصة تقول: إنّ الصفير في المساء وإصدار الأصوات الصاخبة تستحضر الثعابين! وبحلول الظلام يسمع (من يؤمن بالقصة) صوت صفير أو جلبة، فتلتمع الخرافة أمامه بهيئة ثعابين تقتفي أثر الصوت. دلالة المروية تبرّرها، لكأنها تقول: المساءات لا تحتمل الصخب.
عندما تدخل الحشرة باب منزل ما، يوقن أصحاب البيت بأنهم على موعدٍ مع ضيف قادم
ومن الخرافات اليمنية، وجود حشرة تبشر بقدوم ضيف ما! فلدى الريف اليمني خرافة طريفة، مفادها: أنّ ثمة نوعا من الحشرات الطائرة، تسمّى "ضيف"، وليس لها أسماء أخرى. هذه الحشرة تعادل حجم الدبور، لكنها غير مؤذية تمامًا، وعندما تدخل الحشرة باب منزل ما، يوقن أصحاب البيت بأنهم على موعدٍ مع ضيف قادم.
هنا نأتي إلى نقطة تحتاج بحثًا ممنهجًا ومعمقًا، لا البحث عن تفاصيلها ومصداقيتها فحسب، بل والبحث أيضًا عن إهمالها وتجاهل أثرها المسيّس، رغم أنّ هناك كتب محلية عمد مؤلفوها إلى تدوين الخرافة بشكل معمّق، إلا أنها غيّبت، ولو بشكل غير واع الاستغلال الإمامي للخرافة، وبسياق مجازي يحيلنا إلى الواقع المعيش آنذاك، واقع تعدّ فيه الخرافة والحاكم المشرّعان للقانون الفردي والجمعي.
لم تنجُ الخرافة من أيدي الساسة، فكما ورد أعلاه كان الواقع اليمني مرتعًا بالخرافة والأقاويل، كما أنّ نقاش الخرافة وأثرها في الذهنية اليمنية لن يكون مفيدًا بدون أن ينظر إليها منتجًا من منتجات تركيبة نظام الإمام نفسه.
وهناك مثال عن الخرافة الإمامية، ذُكر في كتاب "المملكة المتوكلية" لدكتور التاريخ بجامعة عدن، صادق عبده: "بأنّ العلائق بين الإمبراطورية الإيطالية والمملكة المتوّكلية كانت متينة وقوية، فحصل الإمام يحيى حميد الدين من حليفته على درع واق للرصاص، فحشد مريديه، وبعرض موازٍ لأفلام الخوارق، نجا الإمام (بفعل الدرع) من رصاص سلاح صديق مموّه بهيئة عدو".
كان الحدث في غاية الأهمية لدى الإمام، إذ قال: إنّ قوة ربانية تحفظه أنّى اتجه، وبالتالي يستحيل أن يقدر عليه أحد.
وحين أهدي راديو، جمع الإمام كلّ منجمي زمانه وأسمعهم الصوت الجهوري المنبعث من المذياع، مستخدما إياه في تجييش مشاعر الجمهور باعتباره وسيطًا بينه وبين السماء!