خالتي الحاجة في زيارة الحكيم

28 مايو 2023
+ الخط -

قلما أكتب، أنا محسوبكم، عن حياتي الخاصة بشكل مباشر مثلما أفعل الآن، ولكنني أزعم أنني تناولتُ جوانب من حياتي عشرات المرات، في أعمالي الأدبية، وفي سيناريوهاتي التلفزيونية والإذاعية، وكل عمل أدبي أو فني أكتبه، كنتُ أشعر، في أثناء نقله إلى الورق، وكأنني واحد من أشخاصه، لأنني أعيش البيئة التي أرسمها، بحذافيرها، وأنفعل بالحدث الذي أتخيله، فإذا صَفَعَ رجل غبي امرأتَه، في إحدى قصصي، ترتفع يداي تلقائياً إلى وجهي، لأتقي الصفعة، وكأنها ستنزل على وجهي، أو أحاول صد يده قبل أن تنزل على وجهها. (ملاحظة: هذا ليس مديحاً لنفسي، أو فخراً، بل هو توصيف للحالة النفسية التي أعيشها عندما أكتب).

وأعود، الآن، إلى السيرة التي فتحتُها في التدوينة السابقة، حينما حكيت لكم عن طريقة زوجتي التي يخاطبها الألمان بعبارة Frau Badla، في إخبار أبنائها وبناتها وشقيقاتها وأحفادها عما جرى معها عند الطبيب.. وهي طريقة يمكن تلخيصها بكلمتين: التفصيل الممل.. وهو حديث ممل عندما تصغي إليه مرة واحدة، فما بالكم بي وأنا أسمعه منها مراراً، ويكون الجديد عندي هو رد فعل المتصل، باعتبار أنها لا تتكلم دون أن تفتح السبيكر!

Frau Badla، للإنصاف، امرأة طيبة، ومتسامحة، وقليلة الكلام، أي إنها ليست مملة بطبعها، ولكنها امرأة سورية، والسوريون، عموماً، لهم مع زيارة الطبيب عادات متأصلة، وخبر ذهاب فلان أو فلانة إلى الحكيم كان يذيع في بلدتنا الصغيرة، معرة مصرين كما لو أنه حدث استثنائي، فيقال، مثلاً، إن الحاجة أم فلان سيأخذها ابنها فلان، اليوم، إلى الحكيم، وسرعان ما تتحمس النسوة القريبات منها لزيارتها، فإن وجدن لديها وقتاً فائضاً، هرعن إلى دارها على عجالة، ليودعنها، ويوصينها خيراً بنفسها، وألا تخجل من الطبيب:

- اسألي الحكيم عن كل شي، لا تخجلي منه، وهو من واجبه يجاوبك، لأنه عم ياخد مصاري، والمثل يقول اللي أخد مالِكْ خدي روحُه.

ولكن الحفلة الحقيقية تبدأ عندما تعود الحاجة أم فلان من زيارة الطبيب، إذ يصبح الوقت مناسباً لزيارتها، وهي تستلقي في الفراش، حتى ولو لم يكن وضعها المرضي يتطلب ذلك، لأنّ من غير المعتاد أن تكون الإنسانة مريضة وراجعة من عند الطبيب وتبقى واقفة على ساقيها، وأما المرأة القادمة لزيارتها، ومعها صندوق شوكولاته، هدية المرض، فيجب أن تجلس بجوار فراشها، وتضع كيس الهدية على حافة الفراش، ثم تبدأ الأسئلة الذهبية:

- احكي لي يا أم فلان، أشو طلع معك؟ أشو قال لك الحكيم؟ وإنتي أشو قلتي له؟ وكم نوع دوا كتب لك؟ ومتى تراجعينه؟

وهي لا ترضى على نفسها أن تحكي القصة باختصار، أو أن تكون إجاباتها "فض عتب"، فهذا يعني استخفافاً بالمرأة التي تسألها، لذا تحكي الحاجة للنسوة اللواتي يتجمعن حول فراشها، مع أكياس الهدايا، كيف أنها من لحظة استيقاظها وهي متوعكة، وقرارها بالذهاب إلى الحكيم، (دكّتْ الرعبة)، أي خافت، وتوجست من مواجهة الحكيم، فهناك حكما وجوههم لا تضحك للرغيف التنوري الساخن، لذلك لجأت إلى قراءة القرآن، استمرت تقرأ، في سرها، "آية الكرسي" حتى وصلت إلى العيادة، وجلست في غرفة الانتظار، واستمر جلوسها ساعة حسبتها دهراً، وهي ترى المرضى الموجودين يدخلون حسب الدور إلى غرفة المعاينة، ويخرجون منها بعد انتهائهم من المعاينة.

وهنا تباشر بوصف الحالات التي شاهدتها، وتقول: قعدت جنبي امرأة، ومعها ابنها، أنا تحركشت بها، وسألتها أيش صاير معك يا خيت؟ فحكت لي أنها، اللهم عافنا، تعاني من دعكولة (كتلة)، طالعة في رقبتها، وبودهم يعملوا لها عملية، ومن مدة زارت الحكيم وأعطاها دواءً، وقال لها: راجعيني بعدما تفش الدعكولة، لكي أعمل لك العملية، واشيل لك الدعكولة.. وواحدة ليست مريضة، ولكنها ترافق زوجها، وقالت لي إنه، من يوم يومه يحمل أعدال القمح على ظهره، ويصعد بها إلى الشاحنة، ولكنه، من يومين، شال عدلاً ثقيلاً، وإذا به، اللهم عافنا، يطق له عِرق، يعني بصراحة؟ الرجل انفتق.. في البداية لم يأخذ ويعطي بالقصة، ولكن الألم يا خيت، الجبال لا تطيق الألم، فأنا بعت الحصيرة التسعاوية، وقلت له قم حتى آخذك إلى الحكيم، وكما ترين جئنا..

وبعد ست حكايات، أو سبع، عن الأشخاص الذين التقتهم في العيادة بالصدفة، تقول: وما لكن بطول السيرة يا صبايا (كل هذه الأحاديث لا تعتبرها طول سيرة!)، لما جاء دوري، ودخلت غرفة المعاينة، وجه الحكيم أراحني. وجهه بشوش كثير، لاقى لي بالـ أهلا والـ سَهلا، وقال لي شلونك يا خالتي الحاجة؟ احكي لي أيش يوجعك؟ قلت له: آخ يا عين خالتك، كان لازم تسألني: أيش لا يوجعك؟ وحكيت له شلون أفيق في الليل، وفمي نشفان مثل القحف، وأنا أشحد نَفَسي شحادة، وأحس بين الحين والآخر بشيء يتحرك في صدري، وكأنه طير حمام مرعوب، فأستغفر ربي، وأصلي على النبي، وأركض إلى المطبخ، أغسل وجهي، وأرجع، ولا أستطيع أن أنام قبل أن يطلع الضوء. 

الخلاصة، وبلا طول سيرة، عاينني، وأنا أنظر إلى وجهه، وهو مندهش، ولأنه ابن حلال، أحب أن يخفف عني، فقال لي: شغلتك بسيطة يا خالتي الحاجة، الآن أكتب لك شوية أدوية، وبإذن الله تشفين قبل أن تأخذيها كلها. خلي المحروس ابنك يقول للصيدلي يكتب لك على العلب طريقة الاستعمال، وراجعيني بعد جمعة.

تسألها الجارة أم عبود: أي والخلاصة، أيش عطاكي؟

فتقول: كتب لي حب، نوعين، نوع أصفر مدعبل، والتاني طنطويلي (متطاول)، أزرق وأحمر. أول نوع آخذه ثلاث مرات بعد الطعام، والطنطويلي قبل النوم. وكتب لي سبع إبر بالعضل، راح ابني هلق منشان يبعت لي ضراب الإبر....

(لهذه الأحاديث شجون)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...