حين ترث الصراصير هذه الأرض
الصرصار لا يلد، يكتفي بأن يبيض، وأن يترك للبيوض أن تتدبّر أمرها دون لمسة حنان قد تفسدها، لتحوّلها من كائنات مزعجة بالكامل إلى كائنات مدجنة وأليفة كالقطط المنزلية، التي خانت الغابة مقابل المداعبات والأكل البائت وعظام الدجاج عوض الدجاجة كاملة.
من غير الممكن أبداً أن يسمح لك الصرصار الصغير جداً، أو الكبير حتى، أن تمسّد فروته بيديك، هذا بالنسبة إليه بمثابة الإهانة الكبيرة. عدا عن كونه لا يملك فروة قابلة للتمسيد، ولا شكلاً موحياً بالحنان.
بُنّي وبشرته تشبه لباس المرتزقة الطائفية، مموّه بشكل جيد، أرجله مشعرة بالطريقة المثالية للبشاعة، يحرّك لواقطه التجسّسية الحربية بطرق مستفزة وغريبة: أفقية ودائرية وفي تقاطعات مقلقة للذوق السليم.
بالنسبة إلى صرصار، أيّ حركة تصدر عن العالم الخارجي أو لا تصدر، هي خطر مباشر محدق. مشيته هي النقيض الكلي للطمأنينة، إنها مشية الجنود بين خندق وخندق ساعة القصف الكثيف. حتى حين يكون وحيداً بين القفار في مساحة لانهائية جامدة يتمشّى بريبة شديدة، متنقلاً بسرعة، يميناً ويساراً، ومتوقفاً فجأة بحدّة وكمون للاستطلاع وتحليل المعلومات المخابراتية المعادية. ثم، دون أن يكون ذلك متوّقعا، يحوّل قشرته الزلقة إلى أجنحة مروحية عسكرية ويطير. طيرانه عشوائي ومرعب كاندفاع الكوابيس في الحلم القَلِق بعد شرب السمّ. إنه كائن لا يعرف ماذا تعني كلمة حنان، ولا كلمة حب، ولا كلمة أطفال.
ما يفعله صرصار عجوز هو نفسه ما يفعله صرصار بحجم نملة، كأن الجد هو الحفيد، والحفيد هو الجد..
لا فرق بين صرصار عجوز وصرصار خرج للتو من حزمة البيض الشبيهة بالقنابل العنقودية، لا فرق بينهما في تمثّل الحكمة والحيطة والحذر وتجارب السنين، ما يفعله صرصار عجوز هو نفسه ما يفعله صرصار بحجم نملة، كأن الجد هو الحفيد، والحفيد هو الجد..
حتى زواج الصراصير يكون شبيهاً بالمؤامرة، بتبادل حقائب المخدرات، في الأماكن الخالية البعيدة عن أنظار القانون. لا ينظر الصرصار إلى الصرصارة، ولا تنظر إليه، يمارسان التوالد بطريقة تشبه تدافع الدبابات الفضائية الصغيرة الخيالية. إنه حب من كواكب أخرى، الكواكب المحروقة بالغازات السامة والنيازك المشعة وحروب الكوسموس (الكون). بتوّتر ودون عاطفة، يعاشر الصرصار القبيح صرصارته القبيحة، بحذر وسرعة وفتك، بحيث لا يمكن اعتبارها أبداً زوجته، ولا خليلته، ولا حتى مومسا، بل عضوة منخرطة في عصابة القلق الرهيبة.
لن تحتاج الصراصير أبداً إلى الحنان، أو إلى الجمال، أو إلى بيت محترم بعيد عن المواسير والحطام والخرائب ودفء الأجهزة والأسلاك الكهربائية ذات التوّتر العالي وغبار الركام. إنها كائنات غير حنونة بالمرّة، وغير أليفة، ولا يمكن أبداً تربيتها، ولا استخدامها في السيرك البشري العملاق من أجل التهريج.
لا يمكن استخدام الصراصير في السيرك البشري العملاق من أجل التهريج
الدور الوحيد الذي تتقنه هو الحرب والاستعداد بالأسلحة البيولوجية المضادة للمبيدات لآخر حرب نووية، بحيث ترث الأرض وما عليها وحدها. حينها فقط ستصير الصراصير التي يحتقرها الجميع هي ملكة العالم.. ورغم أنها ستظل وحدها على هذا الكوكب، بالتاج على رأسها، إلا أنها ستظل حذرة إلى الأبد.
بعد ذلك يأتي كائن من الفضاء بكاميرا في يده لتصوير صرصار في الغروب، بطاقة كبيرة من حنان الروبوتات، دون إضاءة سوى إضاءة موت الشمس، على تربة كبيرة أو فوق سور سدٍّ مهيب أو بجانب المتلاشيات اللانهائية لطرف المدينة. يظهر ويختفي. إنه صرصار وحيد، عبارة عن ظلّ عملاق لنفسه، بتقريب للزّوم يخفي التفاصيل عوض أن يبرزها. يحرّك لواقطه بدقة وبحذر وبمأساوية، يتحرّك، يميناً ويساراً، في الوحشة الشاسعة للوجود، حركات درامية دون تدرّب على المشاهد. ظلٌّ كبير لصرصار بطول ظلال القلاع المهجورة والسفوح والمنارات التي بلا فنار في الغروب الخاوي. صرصار أعزل أمام وجوده المفجع، وحيد في أشسع مساحة ممكنة خلف السور القصير الفاصل بين العمران والخرائب والمقابر، بين الحياة والموت، في قلق حركاته المضطربة، ينفلت من الإطار السينمائي لنهاية الغروب، تاركا للكاميرا الفضائية أن تلتقط فقط ظلام العالم.
شديد الحذر من نفسه ومن ظلاله، على إيقاع موسيقى النايات الكهربائية، يمضي وحيدا داخل متاهات مصيره، قوياً، ومنبوذاً، ما إن أراه هكذا حتى تسيل دموع من عينيّ.