حول نخبوية الخطاب اليساري

18 مايو 2024
+ الخط -

دوماً ما يبدو الخطاب الفكري اليساري معقداً إلى حد ما، لاتسامه بنوع من الصعوبة في الفهم والإدراك بالنسبة للجميع، إلا من قضى وقتاً في الدراسة والاطلاع على أدبياته بعمق، وذلك لارتباطه واستناده إلى النظرية الماركسية، وما تحمله من جهاز مفاهيمي ومعرفي ذي خصائص بالغة التعقيد وصعبة المنال. الأمر الذي يجعله فكراً نخبوياً يتجه نحو فئة قليلة من المجتمع، غالباص ما تكون هي تلك التي بدأت بدراسته في مراحل مبكرة من عمرها وتدرجت داخل تنظيماته السياسية، حيث الفضاء يتيح إمكانية الإمساك بتلابيبه.

إن هذه الصورة النمطية للخطاب الفكري اليساري ترسخت منذ القدم لأسباب متعددة، ترجع بالأساس إلى كيفية مناولة المواضيع المرتبطة بهذا الفكر من طرف المفكرين والباحثين، وكل من يكتب/يتحدث في هذا المجال، إذ كلما حاولوا تفكيك الماركسية واستبطان ما تعج به من أفكار وأدوات لتحليل الواقع المجتمعي، من أجل استعمالها، بل فهمها بسلاسة، يسقطون في إعادة إنتاج الصيغ والعبارات اللغوية الأصلية نفسها ذات التركيبات المعقدة، والتي ربما كانت الغاية الأولى من كتابتها، تبسيط فهم الماركسية من أجل الارتكاز إلى تحليل نقدي للواقع بكل تشعباته.

إن النظرية الماركسية تُعتمد مرجعيةً وأساساً نظرياً وإيديولوجياً لمختلف التيارات والتنظيمات السياسية ذات التوجه اليساري في ممارستها العمل السياسي. وتسعى من خلال ذلك إلى تكوين وكسب قاعدة جماهيرية وشعبية واسعة تمكّنها من تحقيق وجود قوي داخل الساحة السياسية بمصاف الأطياف الأخرى، ومنه الأمل في الوصول إلى السلطة.


إن بلوغ تشكيل قاعدة قوية كهذه من شرائح واسعة من المجتمع، لا يحصل دائماً وبشكل مستقر إلا ببلوغ الفكر اليساري هذه الشرائح على النحو الذي لا أقول، يجعلها تحلل الواقع استنادا إلى آلياته كما هو الحال بالنسبة للمفكرين والسياسيين الذين يحملون هذا الفكر، وإنما على الأقل فهم أسسه العامة وتصوراته للفعل السياسي والواقع المجتمعي، وبالتالي إمكانية الإيمان والتشبع به من أجل الدفاع عنه، وممارسة اللعبة السياسية وفق تصوراته. إذ إن مسألة الإيمان بفكرة معينة مسألة مهمة لتفعيل هذه الفكرة بشكل صحيح وسليم، وهكذا يمكن أن يكون من يمارس السياسة من الجانب اليساري (على الأقل)، يمارسها على أساس فكري ونظري، وهو مؤمن ومتشبع بالفكر اليساري، ويرى فيه السبيل الأصلح للتغيير والتقدم، وهذا ما يجعل الفعل السياسي يعبر عن نبل السياسة، وإلا تصير ممارستها ارتجالية وعشوائية، هدفها الحصول على المصالح والامتيازات الخاصة. إن ممارسة الفعل وفق أساس فكري يكون مؤطرا وموجها له، يؤدي لا محالة إلى أسمى ما يمكن أن يقدمه هذا الفعل.

في الوقت الذي أضحت النظرية لا قيمة لها (إلى حد ما) في الفعل السياسي، وأصبحت ممارسته ممارسة تنطلق على عواهنها من دون أساس وتصور نظري، لما يعرفه الواقع عموما من تحولات عصفت بثقافة الفكر والقراءة، مقابل ما تهب به مواقع التواصل الاجتماعي من "تفاهات"؛ أليس من الجدير محاولة إعادة الاعتبار للنظرية، لا سيما في الممارسة السياسية، وارتباطا باليسار، أثناء إعادة قراءة الإرث الماركسي أو استعماله في الخطاب، وأن يتم توخي التبسيط والسلاسة لتتسع رقعة فهمه وإمكانية الاصطفاف وراء تنظيماته، بدل استعمال التعبيرات التي تساهم في تكريس وترسيخ الصورة المعتادة المرتبطة بهذا الفكر، ولا غاية لها، إلا ما قد تضفيه ربما من شعور وإحساس فيه نوع من "التفوق" و"الهالة" الرمزي/ة لمستعملها (المناضل اليساري).