حمّام حليمة

15 ابريل 2023
+ الخط -

ذكريات مليئة بشجن مبهم مع الحمّام ما زالت تخالط ذهني كلّما لفح وجهي هواء ما بعد الاستحمام. كانت الأيام شبيهة بزوارق ورقية تتناوب على بركة صغيرة في غابة، هذا ما تخيّلته عن الزمن في طفولتي. 

لم أكن كسولاً، لكني لم أحبّ المدرسة يوماً، ولا أغلب المعلمين. ولم أحبّ يوماً الواجب والانضباط والامتحانات والحفظ والتمارين. أحببت فقط اللعب واللهو والركض في ساحات المدارس الفارغة الموحشة. 

لم يكن هناك حمّام في البيت، ولا أعتقد أني أتذكر أني رأيت حمّاماً في بيوت أخرى. كانت هناك مراحيض فقط، تصلح حمّامات أيضا. 

في الصيف، تدخل إلى المرحاض وتفرغ فوق رأسك سطل ماء وانتهى الأمر. وفي الشتاء، تُدخل إلى المرحاض قنينة الغاز الصغيرة الزرقاء مشتعلة، تضع فوقها "برمة" الكسكس مليئة بالماء، وتنتظر أن تفور داخل المرحاض كي تحوّله إلى حمام ساونا. تخلع ثيابك وأنت ترتعش، والمكان ضيق، وضوء الشمعة يتراقص بكآبة، والمطر يهطل بغزارة في تلك اللحظة بالذات، وقطة تموء فوق السقف كأنها تبكي. تطلي جسمك بالصابون البلدي الذي يشبه الأوساخ أكثر مما يشبه الصابون، تغرف الماء الساخن بغراف الشرب وتفرغ فوق رأسك. تقضي الغرض دون مشاكل. تنادي على أمك بصوت مرتفع وعيناك مغمضتان تفادياً لرغوة الصابون كي تناولك المشط الذي نسيته، أو كي تحكّ لك ظهرك. هذا يجبرك على فتح باب المرحاض، بالتالي معانقة صفعة الرشح القوية.

الأيام شبيهة بزوارق ورقية تتناوب على بركة صغيرة في غابة، هذا ما تخيّلته عن الزمن في طفولتي

كلّ هذه الأشياء خالية من أيّة مشاكل كبيرة، رغم ذلك، فقد كان رشّ قليل من الملح في زاوية المرحاض كفيلاً بطرد الجن والشياطين الذين قد يتلصّصون عليك، وربما يسجلونك بكاميرا هاتف ذكي وينشرون الفيديو على يوتيوب.

بعد ذلك، خصوصاً في الشتاء، أصبحت مجبراً على مرافقة أبي إلى الحمام العمومي، نحمل كيساً مليئاً بالثياب وسطلاً ونذهب كأننا نهجر البيت، كان ذلك مزامنا لعشية الأحد، إذ بعد أسبوع من الغبار والتراب والطمي، كان لا بدّ من حمام حزين قبل المدرسة. تنادي عليّ أمي بصوت آمر مزعج مرعب، قاطعة لعبي، أن أدخل كي أستعدّ للذهاب إلى الحمام. يا لها من مهمة شاقة وغريبة. إنها الرابعة مساء، اللعب ما زال على أشدّه، والتمارين غير المنجزة عليها انتظار الليل، لكن نداءات أمي اللجوجة تكسر باستمرار كلّ متعة لذيذة.

ننطلق صامتين، أبي وأنا، كأننا ذاهبان إلى مقصلة. الخامسة مساء، ما زال ضوء النهار الشتائي الحزين واضحاً، ندخل إلى حمام حليمة. مباشرة، ودون مقدمات، نجد الجميع عرايا. 

رجل عجوز يرتدي شورتاً، قديماً، مهلهلاً، يطوف بطاسة نحاسية كمتسوّل على غير هدى وسط ضباب البخار، رجل بدين جالس أرضا وبيضتاه تسلقان على "زليج البرمة" الساخن دون أن يشعر بهما، آخر جالس وابنه يحكّ له ظهره، آخر يحمل سطلاً يتدفق منه الماء، آخرون يناقشون موضوعاً غامضاً وهم عرايا، آخر يخرج من المرحاض كقاتل متسلسل، وفي يده ماكينة حلاقة... إلخ..

نجلس في مكان فارغ، نضع حولنا بضعة سطول، نتحمّم وسط الهمهمات والغمغمات وسقوط سطول بعيدة على الأرضية بين فينة وأخرى وقهقهات الجن. يحك لي أبي ظهري بكيس، بينما أراقب المتحمّمين بصمت وفضول دون أن أرمش. بعد ذلك أحكّ له ظهره. لا نتحدث كثيرا، أتلقى فقط بعض الأوامر العسكرية المقتضبة: هات ذلك السطل... ناولني الصابونة... كفى لعبا بالماء..

كان رشّ قليل من الملح في زاوية المرحاض كفيلاً بطرد الجن والشياطين الذين قد يتلصّصون عليك

ننتهي أخيرا من هذا العبث. نخرج إلى البهو كي ننشّف جسدينا ونرتدي ثيابنا. نجد البعض واقفين ملفوفين بفوط، ينزعون "التبان" المبلّل ويرتدون بسرعة "التبان" الجاف، محاذرين أن تسقط الفوطة، رجل آخر ارتدى كلّ الثياب يلف رأسه بفوطة ويضع رجليه في سطل نصف ممتلئ بالماء البارد، يملأه العرق، ويكاد يغمى عليه، ورغم ذلك يقشّر "المندرين" الصغير جدا.. 

نرتدي ثيابنا بسرعة ونخرج. أشم رائحة "كادوم" في يديّ وشعري، ورائحة صابون الكف في الثياب النظيفة التي ارتديتها. أسمع صرير باب الحمام، وأحسّ بلفحة الهواء القارسة. 

صرير باب الحمام الخشبي الضخم يخترق أعماقي بإحساس ميتافيزيقي عميق كجزّ بطن بطيخة داخل كابوس. نكون قد تركنا الجلبة وضوء النهار في الخارج قبل أن ندخل، أما الآن فليس هناك سوى الظلمة الشتائية المضاعفة والصمت المطبق والفراغ والريح. لقد انقرض الأطفال وتغيّر العالم وانهارت الإمبراطوريات بين دخولنا إلى الحمام وخروجنا منه. نزل الليل دون أن نشعر به، بينما ظلّ الزمن ثابتاً داخل حمام حليمة الشبيه بكبسولة فضائية منفلتة عن مدار الجاذبية والكواكب والمقاييس الفيزيائية. 

أشعر أنّي خفيف الوزن والروح والشعور... كريشة، أتذكر التمارين غير المنجزة، أتذكر صباح الاثنين الكئيب، أتذكر سعال المعلم المسلول وقرقعة كعب حذائه الغليظ بين صفوف الطاولات، أشعر أنّ للحمام علاقة وطيدة بالمدرسة والتمارين والعقاب والنزول من الجنة والإحساس العميق بالأسف.

انقرض الأطفال وتغيّر العالم وانهارت الإمبراطوريات بين دخولنا إلى الحمام وخروجنا منه

أبي يلفّ رأسه بفوطة كبيرة وأنا ألفّ رأسي بفوطة صغيرة. نقف عند محلبة النجاح في زاوية المارشي، ندخل كالعادة، كأس رايب بالسيرو الأحمر لكلّ واحد، أرى وجه أبي في مرآة المحلبة فأجده مختلفا، كما لو أنه شخص آخر. وجهي أيضا يبدو أصفر أكثر من العادة. الرايب بارد وطعم "السيرو" شبيه بطعم الدواء، كما لو أنه "سيرو" حقيقي. قبل أن ننهي الكأسين، يبدأ المطر بالتهاطل بغزارة. السماء كئيبة، وليس أمامنا سوى حارس السيارات، متقوّقعاً داخل براكته الصغيرة، ومرتدياً خمس جلابيات ومعطفاً عسكرياً، وأمامه مجمر. نضطر إلى الانتظار حتى يتوقف المطر. لا يتوقف. نضطر إلى الركض كي لا نبتل. عوض عن ألا نبتل ونحن نركض، نبتل أكثر مما لو لم نركض. نصل إلى البيت أخيرا وثيابي كلّها وحل كأني كنت في "بطوار" السوق الأسبوعي وليس في الحمام.

لم يبق هناك وقت للتمارين. أمي طلت رأسها بالحناء. العشاء عبارة عن الشعرية بالحليب. عشاء كئيب وصامت يدفعك إلى النوم مباشرة، مصغياً داخل نومك إلى قرقعات سطول مبصراً "برمة" ماء ساخن هائلة مليئة بالماندرين يخرج منها المعلم بغتة عارياً، وفي يده عصا.

في الصباح الباكر أنهض هلعاً، أدخل الدفاتر في المحفظة بيد راعشة، بينما يصرخ أبي كقاض: "أسرع، ما زال أمامك ربع ساعة فقط".

أخمّن: نعم معه حق، ما زال على موعد إعدامي ربع ساعة فقط.

في الطريق إلى المدرسة أستنتج: حمام المرحاض بقنينة الغاز الصغيرة الزرقاء والبرمة أرحم بكثير، رغم الرشح، ورغم انزلاق القدم والروح أحيانا داخل ماسورته.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.