حليب الحدأة
قال لها: أنت بنت الحرام، لم أر معك أبدًا النّهار الأبيض، قلت لك ألف مرّة: لا تُكثري الإبذار في المرق، وكلّ مرّة تكثرينه عمدًا، غدًا ستصلك ورقتك من عند دار القاضي حتّى خيمة أبيك.
تهلّل وجهها. وقفت برشاقة واعتلت المائدة الدّائريّة الصّغيرة ذات الأرجل الثلاث، ثمّ زغردت وَرَكَزَتْ فوقها وقالت وهي ما زالت ترقص، رافعة تلابيب تَحْتِيَتِهَا بيدها حتّى ركبتها: ماذا؟ تطلّقني؟ حقًّا؟ إذن أنا هذا هو أوّل نهار أبيض سأراه معك مذ رأيت وجهك الكالح قبل ثلاثين سنة. هيّا، أعطني ورقتي وسَيَارِي (سائري/ مصروفي) ونبيّنا عليه السّلام، ودارت دورة كاملة في الرّقص حول نفسها كأنّها في عرس.
ظلّ ذاهلاً كتاجر يقرأ نعوة ما: سَيَارُكِ؟ ماذا تقصدين بِسَيَارِكِ؟ قولي هذا الكلام لأبيك المتسوّل وإخوتك اللّصوص كي يصرفوا عليك السمّ القاطع.
توقّفت عن الرّقص بغتة كعربة غاصت عجلتاها فجأة في الوحل: تجرؤ وتذكر أبي على لسانك؟ إذن أنا لا أُسمَّى إن لم أجعلك تتمنّى الموت ولا تجده، وسياري ستضعه لي ولابنتي فوق المائدة كلّ رأس شهر، بالشّرع ودار المخزن ورأسك متدلّية فوق صدرك كفتيلة اللّمبة.
قاطعها صارخًا: لا تقولي إنّها ابنتك، لا تقولي إنّها ابنتك، لن أتركها لك إلّا على جثّتي.
زغردت ثانية رافعة رأسها ووجهها إلى أعلى كشخص يتأكّد أنّ السّماء بدأت تمطر، وتَحرَّك لسانها في الزّغردة، يمينًا وشمالاً، كلسان سحلية تتحسّس الطّرائد. ركزت ركْزة واحدة قويّة كفرسِ ليلةِ الدّخلة، ثم اعتدلت في وقفتها واضعة يديها على خصرها كيديّ مزهريّة الفخّار الضّخمة: تعااااالوا أيّها الجيران واسمعوا بآذانكم وعُوا، الرّجل يريد حضانة طفلة عمرها سنتان، وما زالت ترضع ليهرب من النّفقة، ماذا سترضعها أنت؟ حليب الحدأة؟
ظلّ هو صامتًا، خجِلًا، حانيًا رأسه لا يستطيع أن يرفعها ليقول لهم إنّها هي الّتي ضربته وجفّفت به الدّار وليس هو
قاطعها متوتِّرًا، مادًّا يده، مبسوطة كمتسوّل في اتّجاه وجهها: سأرضعها أيّامك السّوداء أيّتها الأفعى الْقَرْطِيطَة، سأرضعها الجائحة الّتي ستضربك أنت وأهلك الجوعى، سأرضعها القطران الحارّ، أخرجي من بيتي قبل أن أرتكب فيك جريمة وأذهب بسببك إلى الحبس.
مدّت في اتّجاهه عنقها كنعجة سمينة أنهكتها الشّمس بعيدًا عن الظلّ: تريد أن تضربني؟ تريد أن تمثّل الآن أنّك رجل وفحل؟ وأنت لم تشبعني قطّ. هيّا. افعلها إن كنت فحلاً بحقّ... افعلها، هيّا، ماذا تنتظر؟ قلت لك افعلها هيّا!
ظلّت يده مبسوطة في الهواء كأنّه يتسوّلها وهي لن تعطيه الصّدقة، وعيناه جاحظتان. كان هزيلاً، أنهكه العمل المتواصل غير المربح والهَمّ والكيف المغشوش، بينما ظلّت هي قويّة رشيقة، بل زادت سمنتها مع الأيّام وأسنانها ما زالت قويّة ومتراصّة كأسنان بغل يستطيع بسهولة أن يعضّ لجامًا حتّى يمزّقه. لم يتجرّأ على صفعها. حسب حسابًا سريعًا لجرأتها هذه، ومواجهتها المستميتة له بالكلام. حسب الحساب أيضًا لحجم ذراعيها، فهي حين تعجن في القصعة تبدو كأنّها تشدّ خناق شخص ما وتخنقه حتّى الموت. قرّر أن يُبَرِّد الجوّ: العني الشّيطان.
حسب الحساب لحجم ذراعيها، فهي حين تعجن في القصعة تبدو كأنّها تشدّ خناق شخص ما وتخنقه حتّى الموت
قالها بصوت متهدّج. لمست ضعفه المفاجئ في رنّة صوته، واندحاره الكامل داخل نفسه أمام سلاطة لسانها. بدا لها داخل جلبابه، وهي ما زالت واقفة فوق المائدة أعلى منه، كديك هزيل بريش كثيف. أمسكته من قُبِّ جلبابه قبل أن يرتدّ إليه طرفه وأدارته بسرعة، دخل وجهه في القُبّ، فسحبته. ظهرهُ إلى صدرها وهو يدفع الجلباب والهواء بيده محاولاً الفكاك والصّراخ قبل الاختناق كسلحفاة مقلوبة تخمش الهواء. لكن، هي الّتي صرخت! تضربه بيدها القويّة على ظهره وكتفه ورأسه ضربات كتيمة مُحْكَمَةٍ وتُحْكِمُ خناق القُبِّ باليد الأخرى، صارخة بصوت عال كي يسمعها الجيران والمارّة: اعتقوا الرّوح يا عباد الله، اعتقوا الّروح يا عباد الله... يريد أن يذبحني بسكّين العيد الكبير ويُفصّلني بالشّاقور، اعتقوا الرّووووح يا عباد الله.. وظلّت هكذا، حتى سَمِعَتْ طرقات متتالية قويّة على الباب كطرقات رجال الدّرك التي تأتي مع الفجر. تركته ليستردّ أنفاسه وهرعت لفتح الباب متباكية. ارتمت فوق الجيران وطلبت أن ينصفوها منه.
دخل الرّجال والنّساء دفعة واحدة كقطيع يدخل حظيرة، وبدأوا مباشرة كلّهم بتأنيبه وتوبيخه بأصوات متداخلة: كيف تضرب زوجتك يا أخي؟ إنّها امرأة وأنت صاحب العقل! لا لا لا هذه ليست من عاداتك، العن الشّيطان يا رجل، فساعة الغضب تمرّ. هل تريد أن تقتلها وتيتِّم الطفلة؟ كيفما كان الحال فهي مجرّد وَلِيَّة، فَكِّرْ على الأقلّ في الملح والطّعام والعِشرة.
ظلّ هو صامتًا، خجِلاً، حانيًا رأسه لا يستطيع أن يرفعها ليقول لهم إنّها هي الّتي ضربته وجفّفت به الدّار وليس هو. سحبوه من قُبِّهِ، ومن كمَّيْ جلبابه ضاحكين كي يقوم وهم يقسمون عليه بالله والقرآن والأولياء الصّالحين جميعهم أن يصالحها أمامهم، ويقبّل رأسها ثلاث مرّات ويَعِدها بشراء تَحْتِيَّةٍ جديدة ودَرَّةٍ مزوّقة لها عند أوّل سوق، وهي تتمنّع وتبكي بدموع حقيقيّة، حتّى قبّل رأسها أخيرًا، فزغردت النّسوة وانشرحت أسارير الجمع، وقال الفقيه لهم وهو يهمّ بالتّربّع فوق هَيْدُورَة العيد: هيّئوا لنا برّاد شاي منعنع، اجلسوا يا جماعة الخير حتّى نتعشّى، اجلسوا..