حلاق الحارة الذي "يدق" على العود
أصر صديقي أبو سعيد، خلال اتصاله بي من بلدتي معرة مصرين، على متابعة الحديث عن عصر ما قبل التلفزيون، وقال إن قصص الأستاذ حسيب كيالي، رحمه الله، كانت تعبيراً دقيقاً عن ذلك العصر، فحينما كان يتحدث عن حارات إدلب، وبيادرها، وكرومها، ورجالها، ونسائها، وأطفالها، تحس وكأنه ينقل البيئة التي كان يعيش فيها، بكل صدق وأمانة. وبالمناسبة؛ جاء في شارة المسلسل الذي كتبتَه أنت، قبل أكثر من عشرين سنة، وعنوانه "تلك الأيام"، أنك اعتمدتَ في السيناريو على قصة للعم حسيب، دون أن تحدد اسم القصة.
- القصة التي اعتمدتُها بشكل أساسي عنوانُها "حلاق الحارة"، والحقيقة أن معلمنا حسيب كيالي، في تلك القصة، التقط مفارقة كبرى، ومشكلةً اجتماعية كانت سائدة في أيامه، تتلخص في الصراع بين القديم والجديد، فالحلاق عبد الحميد كُعْبُرة، على الرغم من تواضعِ أدواته، كان يزين جدران دكانه بصور لنجمات السينما، ويعلق في سقف دكانه مروحة يدوية ذات مقبض مربوط بحبل طويل... ومع أنه لا يختلف، من حيث المستوى الثقافي، عن أجيره، تراه يحكي للزبائن عن غباء أجيره، واستحالة ارتقائه في عالم الثقافة! ولا يكتفي بذم الصانع، بل الجيل الجديد كله، فيقول:
- أيش تتأمل من جيل يضع عقله في النقيفة وتخريب أعشاش العصافير؟
ولأجل أن يحقق الحلاق لنفسه نوعاً من (الأمبلاج)، كان يسعى لتعلم العزف على العود، لأن ما يسمونه (الدَقّ على العود) كان يميز بعض الناس في مجتمع تلك الأيام، وأثناء قراءة النوتة، كانت تصدر عنه تعبيرات مضحكة، فيسمي العلامة المستديرة (المُدَوَّرَة)، وذاتَ السن (أمّ الأسنان)، وبدلاً من أن يطلب من معلم الموسيقى تعليمَه النوتة والإيقاعات، كان يقول له:
- بودي أتعلم (طُمّ طُمّين) لكيلا أبقى جاهلاً بين الناس، وخاصة المُسَقَّفين "المثقفين"! ومن أبواب الطرافة التي التقطها الأستاذ حسيب، أن الجارة فطوم، هي الأخرى كانت تتعلم الدق على العود، وكانت أمها تحكي عنها، وتعمل لها دعاية، لكي تُزوجها وتخلص من همها، فتتواطأ مع الخبازة أم الزاكي، لكي تحكي عنها بين نساء البلدة، فتقول، في سبيل مديحها:
- دابّة شغل! طَقّة عجينها تُسمع من شرقي البلدة! وفوقها دقاقة عود، لما تدق مقطوعة "هوانم" أو "رقصة ستي" حجارة الدار تقوم لترقص!
أبو سعيد: يا سلام. الأستاذ حسيب كان خبيراً بنكهة البيئة يا أبو المراديس.
- نعم، ولكن معلميته لم تقتصر على وصف المكان، بل على تحليل الطبائع، بطريقة فنية مدهشة، فهذه الأم المسكينة، التي كانت تنصب فخاً للجار الحلاق، لكي يخطب ابنتها، عندما خطبها بالفعل، بدأت تُملي عليه طلباتها التعجيزية، فكان يجب على عريس الغفلة أن يشتري لها "السبع حاجات"، ويوم عقد القران، اشترطت أن يربط الخروف عند الباب برسن من الفضة، وهي بذلك تتواضع، وتتنازل؛ إذ يوجد أناس يشترطون أن يكون الرسن من الذهب، ونأتي إلى مؤخر الصداق، ويتألف من الليرات الذهبية والمجيديات الفضية.. والخلاصة التي يأخذها القارئ من هذه القصة، أن مجتمعنا، بقدر ما هو طيب، وحباب، ممتلئ بالعقد النفسية الناجمة عن التقاليد والأعراف التي تخلق صعوبات تضغط على الناس وتجعلهم يعيشون في قهر وتذمر، باختصار: هي عادات وأعراف تدمر الناس بدلاً من إسعادهم.
- كلام سليم.
- ولكن، يا أبو سعيد، بما أننا نتحدث عن عصر ما قبل التلفزيون، يجدر بنا أن نشير إلى أن الأستاذ حسيب نفسه، أشار إلى أن سبب ولع أهل إدلب وريفها بالسخرية، والفكاهة، والمزاح، هو أن بيئتهم فلاحية، والناس يشتغلون شهرين في السنة، ويقعدون عشرة أشهر بلا شغل. وهذا فراغ طويل، وممل، ويحتاج إلى مَلْء. ولعلمك، إن أكثر الحكايات المتداولة، في تلك الأيام الغابرة، كانت تدور حول شخصية "الكذاب النصاب". وهنا ثمة مسألة، هي أن النصاب يكذب لكي يتمكن من الإيقاع بالشخص المنصوب عليه، ولكن هناك كذباً لا يهدف للاحتيال، بل للتسلية، مثل حكاية الرجل الذي قيل إنه أحضر إلى منزله كيساً مملوءاً بالزرازير الحية، فدهشت زوجته، وسألته:
- كيف تمكنتَ من صيد كل هذه الزرازير وهي حية؟
فقال: بسيطة. كنت عائداً من الحقل، راكباً على ظهر الجحش، ومر فوقي سرب زرازير، فأخرجت الكيس من الخُرج، وفتحته، وصحت بها (تعي تعي)، وإذا بالزرازير تنزل من عليائها وتدخل فيه، وكان علي أن أخيط القسم الأعلى من الكيس، لئلا تهرب منه الزرازير، ولكنني تراجعت، وقلت لنفسي: طالما أنها دخلت بمحض إرادتها يستحيل أن تهرب!
- هذه تشبه الحكايات التي يروونها عن الفتى أبو خربوش.
- نعم، وأنا كنت على وشك أن أتطرق للحديث عن أبو خربوش، فهو شخص نصف أهبل، وما يميز شخصيته أنه يكذب بهذه الطريقة الخيالية. وله قصة عن الزرازير أيضاً. هل تعرفها؟
- لا.
- يا سيدي. أبو خربوش كان يحكي لرفاقه، ذات مرة، أنه قص من شجرة الزيتون شُعْباً، وصنع منه "نقيفة"، ومشى على شاطئ البحر (مع أن إدلب لا تطل على بحر)، وجمع خمسين بحصة، ثم عاد إلى الحارة، وفجأة التفت إلى الأعلى، فشاهد خمسين زرزوراً، واقفات على شريط الهاتف. يعني، بما يساوي عند البحصات التي يمتلكها. وهكذا اصطادها جميعاً.
الجانب المدهش في الحكاية، يا أبو سعيد، أنه إذا ضرب حصاة واحدة، أصاب بها زرزوراً، لا بد أن تهرب الزرازير الأخرى. ومن هنا راح أصحاب أبو خربوش ينسجون أفكاراً مضحكة على حكايته العجيبة، فقال أحدهم إن أبو خربوش كان يضرب الزرزور بحصاة النقيفة، ويسقط، فيتقدم زميله، ويقف مكانه، ويقول:
- تفضل عمي أبو خربوش اصطدني!
وقام آخر بتطوير الفكرة، فقال إنه وجه سؤالاً لأبو خربوش عن سر إصرار الزرازير على الموت بالنقيفة، فقال:
- الزرازير مصابة بالاكتئاب، وتريد أن تتخلص من هذه الحياة المملة!
للحديث صلة.