حكاية العم أبو نبهان الطَرَّار
كنا في شهر فبراير/ شباط من سنة 1995، وكنت، في تلك الأيام، مولعاً بقراءة الأدب، وبشكل خاص الأدب الساخر.
قلت لأبو عناد، ونحن ماشيان في الشارع النازل من دوار الكرة الأرضية باتجاه ساحة البازار بإدلب:
- انظر كيف يُعَبّر الربيع عن قدومه بإطلالة للشمس من بين الغيوم، ناشرة الدفء في أرجاء المدينة، بعد ثلاثة أشهر من الشتاء القاسي. وعلى ذكر قساوة الشتاء، لا يوجد أجمل من القصص التي أبدعها أستاذنا سعيد حورانية وأطلق عليها اسم: "شتاء قاسٍ آخر".
تنحنح أبو عناد. ولم يجب. قلت:
- وأما الكاتب "بوعلي ياسين" فقد أطلق على إطلالات الشمس في مثل هذه الأيام التي يشع فيها الدفء اسماً حلواً هو: شمسات شباطية.. وقد أطلق هذا الاسم على كتاب جمع فيه طرائف سياسية واجتماعية وأدبية، وقد منعته الرقابة السورية. هل تعرف لماذا؟
- لا.
- ولا أنا أعرف، ولكنني، بعدما قرأته خمنت أنهم منعوه لأنه يتضمن طرائف يمكن تفسيرها بأنها تستهدف حزب البعث، والنظام الحاكم. وبالأخص الطرفة التي تتناول شخصاً أمياً من إحدى القرى، أصبح مسؤولاً بفضل حزب البعث. وكان ذلك المسؤول الأمي يذهب إلى مركز المدينة، مرة في الأسبوع، ليحضر الاجتماعات الحزبية، وهو لم يسمع قط مصطلحات مثل اجتماع، أو نِصَاب (والنِصَاب تعني حضور الحد الأدنى من الرفاق الذي يصبح الاجتماع به قانونياً).. وذات مرة عاد ذلك المسؤول من المدينة مبكراً، فسألته زوجته عن السبب، فقال لها: ما صار جِماع، لأنه ما اكتمل الانتصاب..
أبو عناد، وبما أنه لا يبتسم، ولا يضحك، فقد عبر عن إعجابه بالنكتة من خلال حركات يجريها بعينيه وحاجبيه. وفجأة، أمسك بيدي وضغط عليها، وهمس لي:
- اسكت.
وأشار بيده نحو عمق الشارع، حيث كان "العم أبو نبهان الطَرَّار" قادماً، يصحبه اثنان من أحفاده، لأنه أصبح شحيحَ البصر، بعدما أصيب بانفصال شبكية سببه الارتفاع المفاجئ للسكري في الدم.
عندما أصبح الثلاثة مقابلنا، سمعتُ أحد الحفيدين يقول:
- جدي. هادا أبو عناد جلد الضفدع اللميع، ومعه رجل لم أعرفه.
قال الجد: بالله؟ وقفوا، خلوني أحكي معه.
توقف الثلاثة مقابلنا، وأمسك أحد الحفيدين يدَ الجَد ومدها نحو أبو عناد ثم نحوي فصافحنا، وقال لأبو عناد:
- كيف حالك ولاك جلد الضفدع المنحوس؟ بشرني، إن شاء الله حظك جلس؟
قال أبو عناد: لو أن حظي جلس، يا عمي أبو نبهان، لكانت محافظة إدلب كلها سمعت بالقصة. ومن جهة ثانية، الفقر والطفر والنحس، جزء من شخصيتي، فإذا جلس حظي فسأتحول إلى شخص لا يشبهني... وأنت كيف حالك؟
ضحك أبو نبهان، وسمعنا لصدره أثناء الضحك خشخشة، وقال ساخراً:
- وضعي ممتاز أكثر من اللازم! لا أمشي إذا لم يسحبني اثنان من شباب العيلة، وإذا جلست إلى سفرة الطعام، أختك أم نبهان تلف (الدَقُّونة) حول رقبتي، وتطعمني بيدها، وأنا، للأمانة، لم أسمعها تدعو الله أن يميتني ويخلصها مني، ولكنها بالتأكيد تقول ذلك في سرها، وعندما يأتي الليل، أقول لنفسي: أصبحنا وأصبح الملك لله. وأظل ساهراً حتى يأخذني النوم، فأنام (طوبزة)، وعندما أنفلت بالسعال يستيقظ كل أهل الحارة، وأسمعهم يسبون علي، وعلى هذه الجيرة التعبانة، يقولونها وهم يعرفون أنني عاجز، لا أستطيع أن أخرج إليهم وأجعلهم يندمون على كل كلمة قالوها.
قال أبو عناد: أعرفك على صديقي الكاتب خطيب بدلة. مؤكد أنك سمعت به.
مد أبو نبهان عصاه الصغيرة، ونكز بها "أبو عناد" في بطنه، وقال:
- يحرق حريشك يا أبو عناد جلد الضفدع، لا تحيد عن طريقتك في التنكيت والمسخرة، تريد أن تخترع اسم كاتب، ما طلع معك اسم غير (خطيب بدلة)؟!
وانفلت بالضحك والسعال، وكاد أن يقع على الأرض لولا أن تداركه حفيداه، وسحباه، وتابعوا الطريق. وأما أبو عناد فقد استوقفني أمام زجاج مقهى حمشدو وقال لي:
- أبو عناد وحفيداه عرفوني أنا، وأما أنت فلم يعرفك أحد منهم. بالمختصر: أنا مشهور أكثر منك. صح؟
قلت له: كل الناس مشهورون أكثر مني يا أبو عناد. اسمع. مرة جاء الشاعر الرقي عبد اللطيف خطاب، رحمه الله، إلى إدلب، ليزورني، أنزله الباص عند دوار المحريب، ومشى، وصار يسأل عني في شوارع إدلب، ولم يجد شخصاً واحداً يعرفني، وكان معظم الذي سألهم يقولون له: لا بد أنك غلطان بمجيئك إلى إدلب، فمعظم أبناء عائلة "بدلة" يسكنون في بلدة معرة مصرين، وقسم منهم يسكنون في سلقين. المهم أن عبد اللطيف اهتدى إلى شخص قال له إنه يعرف دار عوني بدلة في الحي الجنوبي، بجانب السمان أبو ربيع، وأوصله إليه، وكان ابن عمي سامر عوني موجوداً، فأوصله إلى دارنا، وأنا التقيت به في الشارع أمام بيتنا، وراح يحكي لي عن مكابدته الناتجة عن قلة شهرتي في إدلب، على الرغم من أنني أكتب وأنشر في الصحف منذ نحو عشر سنوات. وفي تلك الأثناء، مرت ابنتي "فرح" بقربنا، نظرت إلينا ومشت. قال لي:
- هذه البنت تشبهك جداً.
قلت له باندفاع: طبعاً تشبهني. إنها ابنتي.
قال: ومع ذلك ما عرفتك!
عبر أبو عناد عن إعجابه بالقصة، وقال:
- قلة شهرتك لا تحتاج إلى أمثلة كثيرة، اعزمني على أركيلة وكأس شاي لأحكي لك ما لا تعرفه عن شخصية أبو نبهان.
دخلنا المقهى، وجلسنا، وطلبنا الأركيلة مع فنجاني قهوة سادة، وصار أبو عناد يحكي لي قائلاً إن أبو نبهان، عافاه الله، كان من أكثر رجال المدينة (حشرية)، وولعاً بالتدخل في ما لا يعنيه. والمشكلة أن أشقاءه وأبناءه وأحفاده وأبناء أعمامه ينساقون وراءه دون تفكير، ولذلك تعرضوا، في أكثر من مرة، للشجار مع عائلات أخرى، ووقعت فيهم إصابات، من جروح وكسور ورضوض، كان بعضها خطيراً، وذات مرة نبقت لابن عمه "سالم الطرار" بعجورة فوق عينه اليمنى، فأصبح شبيهاً بأم دومان. هل تعرفها؟
- أعرفها، هي امرأة فكهة، حينما تضحك، تضغط البعجورة الموجودة في جبينها على عينها، فتغور، ويعتقد من يراها أنها فقدت إحدى عينيها.. المهم. هل تعرف أن أبو نبهان قتل رجلاً من أهل حارته؟
قلت: قتله على الخالص؟
قال: نعم.
وكان النادل قد حضر ووضع أمامه الأركيلة، فقال لي:
سأحكي لك قصته بعدما تشتغل الأركيلة.
وبدأ يسحب، ويبقبق.
(للقصة بقية)