حكايات سورية (4)

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
في القسم الثاني من سهرة "الإمتاع والمؤانسة"، طلبَ أبو جهاد من الأستاذ كمال أن يُكمل لنا حكاية الأخ "أبو عَجُّورة" مع إشارات المرور.

قال كمال: طيب. حاضر. هادا يا سيدي المحترم؛ أخونا "أبو عَجُّورة" اللي دخل على مدينة إدلب وهوي عَمْ يسوقْ تَرَكْتُورُه بأمان الرحمن سمع نصيحة الولد الخبيث الغشاشْ، وصارْ يْوَقِّفْ على إشارة المرورْ لما تكونْ خضرا، وبمجردْ ما تفتحْ الإشارة الحَمْرَا ينطلقْ، ولما دورية الشرطة تصفّرْ لُه كان يعتقدْ إنهم عَمْ يحييوه (هيك شرحْ لُه الولدْ)، فيرفعْ إيده لفوق ويقول: ع راسي الشباب أهلين وسهلين! وعلى ما يبدو أنَّ تَجَاوُزْ الإشارة وتصفيرْ الشرطة والتسليم عليهم نالْ إعجابْ "أبو عَجُّورة"، فصار كل يومْ ينزلْ ع مركز المدينة بفترة الظهيرة وهوي ممتطي صهوة التركتور، ويْتْفَتَّلْ في الشوارعْ، ويخالفْ إشاراتْ المرورْ وكله اعتقادْ إنه عَمْ يمشي نظامي. وبعد شي عشرة أيام أجاه شرطي عَ البيت شايلْ شنتاية كبيرة، وسَلَّمُه عشرين "ورقة مخالفة سير" كل واحدة منها بتتضمن الحد الأعلى للجزاءْ، مكتوب عليها (نوع المخالفة: تَجَاوُز إشارة المرور وعدم إطاعة الدورية)، وبعد الطرح والجمع تبينْ إنه لازم يدفع شي ألف ليرة سورية لقاء المخالفات، فاندهش وقال للشرطي: علي الطلاق بالتلاتة هادا التركتور اللي كله حديد ودواليبْ جَبْجُوكْ (يقصد كاوتشوك) أنا مشتريه بتمانمية ليرة! معقولة إدفع ألف ليرة حق مرور ع الإشارة وسلام عَ الدورياتْ؟ هادا ظلم ياه.

فقال الشرطي: إبقى قولْ هالحكي للقاضي.

اندهش أبو عجورة من جديد، وقال للشرطي: القاضي؟ وهادا أيش علاقته فيني كمان؟
فقال الشرطي: إذا دفعت المخالفاتْ بتنحلّْ القصة، وإذا ما دفعت بدك تنحالْ عَ القضاء وتوقف قدام القاضي، لأنه هاي المخالفات أموال دولة، والدولة ما بتتنازل عن حقوقها.


قال أبو جهاد: الله الله الله.. كان أبوي الله يرحمه يقولْ إنه الغشيم (الغبي) حياتُه صعبة، ولما بيوقع في جورة بيحفر منشان يطلع، وبيغوص بزيادة.

قال كمال: هادا هوي الشي اللي صار مع أبو عجورة. لحتى يطلع من المشكلة (الجورة) اللي وقع فيها، جمع أبناؤه وإخوته وولاد عمه وولاد خاله، وحكى لهم القصة من طَأْطَأْ للسلام عليكم. وهدول القومْ، من شدة الذكا تبعهم، بدل ما يبحثوا عن حل منطقي للقصة، صاروا يفكروا – على قولة السياسيين - خارج الصندوق.

قال أبو محمد: هاي أنا ما فهمتها. شلون يعني خارج الصندوق؟

قال كمال: يعني صاروا يفكروا إنهم يقوموا بتصرفات غير مفيدة، أو تصرفات حمقاء ممكن تكون ضارة. خليني أقربْ لك المسألة لذهنك. إذا أنا واقع في جورة لازم أجيب أشياء صلبة، حجارة أو بحص أو أتربة وحطها تحت رجليّ، وهيك برتفع لفوق، وشوي شوي بطلع منها، لكن إذا بحفر تحت رجلي بغوص أكتر وأكتر. يا سيدي، واحد من الموجودين في هداكا الاجتماع التاريخي اقترح إنه يروحوا لعند الشرطي اللي جاب التبليغات لأبو عجورة، ويدفعوا لُه مية ليرة رشوة (برانية)، ويطلبوا منه يشق المخالفاتْ ويزيل أثرها. اعترض واحد منهم وقال: هاي المخالفات مسجلة عند الشرطة بالدفاتر، يعني إذا شقيناها أو تركناها ما منستفيد شي. واحد تاني قال: إذا كان الأمرْ هيك منعمل عزيمة لقائد الشرطة، منطعميه لحوم وحلويات وفواكه لحتى ينسطل، وبعدها منطلب منه إنه ينام عَ السيرة (يعني: يتناساها). وكان الجواب إنه حتى قائد الشرطة ما بيحسن يلغي المخالفات. واحد تالت.. واضح أنه ذكي كتير، قال:

- بَسّْ. أنا لقيت الحل. بكرة مناخد عمي أبو عجورة ومنوقف ع باب المدرسة، ومنخليه يستعرض ببصرُه الولادْ الطالعين من الدوام، لحتى يطلع الولد السرسري اللي شرح لُه شلون بتشتغل إشارات المرور بشكل مغلوطْ وبيقول عمي: هادا هوي.. ونحن منمسك الولد من إدنه ومنسأله: أنت ابن مين ولاك حيوانْ؟ ولما منعرف هوي ابن مين منروح لعند أبوه ومنقله إنه النصيحة الملعونة اللي قدمها إبنك لعمي أبو عجورة سببتْ لنا ضررْ بألف ليرة سورية، يعني خربت بيتنا، وهلق بدنا نخليك تدفعها أنت. وإذا قال ما معي، منقله ادفع نص المبلغ.. وإذا رفض منعملْ لُه قتلة منكسر عضامه. قال واحد من الحاضرين: وبركي أجوا قرايبينه ودعموه ضدنا؟ فرد الأولاني إنه نحن ما راح نسكت لهم، والله أنا مستعد نساوي الدم للركب.

قال أبو ماهر: شو هالجهل هاد؟ بده يعمل مشاجرة جماعية، ويوقع فيها قتلى ومجاريح؟ أكيد أبو عجورة نفسه ما بيرضاها.

قال كمال: هوي بالفعل ما رضي. بس مو لأنه بيكره العنف والدم. حاشاه! هوي ما رضي حتى ما ينقال في البلد إنه ولد زغير ضحك عليه، وعلى قولة المتل: جِدِي لعب بعقل تيس. لاكن بالأخير توصل أبو عجورة لقناعة بأنه هدول الموجودين كلهم طشومة (يعني أغبياء)، وعلى الفور صرفهم، وقرر ينفذ الخطة باء.

قال أبو الجود: أكيد خطة جهنمية. أشو عمل بالله؟

قال كمال: لما نزلْ الليلْ ع المدينة، وانصرفتْ دوريات الشرطة، والناس كلها نامتْ، وما بقي في الشوارع غير شوية كلاب جعارية عم تعوي وتركض ورا بعضها البعض،
أخد معه كابلْ نحاسي، علقه في مؤخرة التركتور، وصار يربط أعمدة الإشارات المرورية واحد ورا التاني بالكابل، وبنترة واحدة يوقعه على الأرض..

في اليوم التالي كتب مدير فرع المرور لقائد الشرطة:
- احترامي سيدي، نفيدكم علماً بأن إشارات المرور تعرضت ليل أمس إلى مجزرة مروعة!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...