حكايات سورية (2)
كانت سهرة الإمتاع والمؤانسة منعقدةً في بيت صديقنا "أبو ماهر" بمدينة إسطنبول.. عندما باشر أبناءُ "أبو ماهر" بإحضار أطباق طعام العشاء، وتوزيعها على السفرة المستطيلة المصنوعة من القماش المُشَمَّع، قَطَعَ الأستاذ كمال حديثَه مؤجلاً إتمامَهُ إلى القسم الثاني من السهرة.
كان يسرد علينا -قبل العَشاء- وقائع حادث السير الذي وقعَ أمام منزله في حي البيطرة بإدلب، قبل ثلاثين عاماً، ببراعة، وبمقدرة استثنائية على التصوير كما لو أن الحادث يقع الآن. وصفَ لنا كيف ضربت الشاحنةُ الألمانية الصنع ماركة "هنشل" السيارةَ الأميركانية الصنع ماركة فورد 55، واتكأتْ السيارتان على عمود الكهرباء المزروع ضمن منصف الشارع، فأسقطتاه على الأرض كالقتيل.
بعدما انتهينا من تناول الطعام وأحْضِرَتْ كؤوسُ الشاي قال كمال:
- عمود الإنارة اللي كانتْ زارعتُه البلدية في وسطْ مُنَصّفْ الشارعْ غليظْ من تحت، ورفيع من فوق، ومن جواتُه مْجَوَّفْ. لما صار الحادثْ ونزلوا السيارتين فوقه طَقْطَقِتْ شروشُه وانكسر ووقعْ من طولُه، ونحن أبناء الحارة تجمعنا في المكانْ، بدافع الفضول وحب المساعدة، وشفنا كيف نَبْقِتْ حزمة الأسلاكْ الموجودة جواتُه وطلعت لبره. كانت الأسلاك ملونة، خضرا وحمرا وزرقا وصفرا وبنية، بعض الأسلاك تْقَطَّعُوا من عزم الضربة، وبعضْهم بقيوا متماسْكِين، وأنا بعتقد إنهم قبل الحادث كانوا مشدودين من القاعدة لفوق، يعني لعند لمبة النيون اللي بتشتغل في النهار وبتنطفي بالليل.
قال أبو ماهر: نحنا تاركينك تحكي، يا أستاذ كمال، على حريتك، مع إني أنا عندي سؤال ما عمْ لاقي فرصة حتى أوَجّهْ لك إياه. دخلك إن شاء الله الحادث ما سبب أضرار بشرية؟
قال كمال: الحمد لله ما في أضرار بشرية.
تدخلتُ قائلاً لـ أبو ماهر: كمال في إلُه طريقة معينة برواية الأحداث. كلما وصلْ لمنطقة في الحديث بيوقف، وبيحكي أشياء ذات أهمية، وإذا هوي ما رجعْ للنقطة اللي توقف عندها نحنا منقدرْ نْرَجّعُه. وبالمناسبة أنا كتير بتعجبني طريقتُه.
قال كمال: لما هوى العمود المصنوع من الخراسانة المسلحة، تمدد على أرض الشارع، وبقيت مسافة زغيرة بينه وبين الرصيف المقابل، وهالمسافة ما بتكفي لعبور السيارات والموتوسيكلات والعربانات والطريزينات، منشان هيك صارتْ السيارات العريضة تضطرّْ إنها تطلع دواليبها ع الرصيف لحتى ما تصطدمْ دواليبها اليسارية بالعمود.. على فكرة هادا الرصيف في إلُه قصة ظريفة مع السيد "أبو صطوف الدَكّة" صاحب تركتور الـ "ماسّي فوردسُنْ". أبو صطوف اكتشف فجأة أنه بلدية إدلب ما بتستحي.
ضحكنا، وقال العم أبو محمد: البلدية ما بتستحي؟ منيح ما قال إنها بهيمة كمان؟
قال كمال: هوي قال بهيمة، وقال إنه البغل اللي بيكدنوه في المعصرة حتى يطحن السمسم أفهمْ من رئيس البلدية شخصياً.. والسبب إنه هوي، قصدي أبو صطوف، لما اشترى التركتور قبل خمس سنين أجا عالحارة، واستعرض الأماكن اللي ممكن يصف تراكتوره فيها، وأكتر شي أعجبه هالرصيف، لأنه بعد الضهر بتكون الشمس بَعَّدِتْ عنه، يعني بصير بالفَيّْ، وهيك ما بيتآذى الحديد تبعو.. وبقي يصف التركتور هون كل يوم، إلى أن إجا في يوم من الأيام ولقى شاخصة مرورية مزروعة في نص الرصيف. في البداية صار يحوقلْ، وما فهم أيش القصة، لحتى شاف ولد مارق جنب الرصيف، فقال له: عين عمك تعالْ شفلي أشو مكتوب هون؟ الولد قَرَالُه اللي مكتوب ع الشاخصة: ممنوع الوقوف والتوقف. فتساءل أبو صطوف: ومين اللي جَكّْها (زرعها) هون؟ قال الولد ما بعرف. أبو صطوف شكر الولد ودخل على الدكانة المواجهة للرصيف وسأل صاحبها عن اللافتة، فقال له إنه هادا من اختصاص البلدية، وبوقتها فَتَحْ الجْرَابة..
قال أبو ماهر: أنو جرابة؟
قال كمال: لما الواحد بده يسب بيقولوا (فَتَحْ الجْرَابة) وصار يطالع منها مسبات (تحاشيك) منقاية على الصينية.. ولما كان أبو صطوف فاتح الجرابة وعم يسب، دخلوا تلات شباب هيئتهم غريبة، فسكت، وطلع من الدكان.
قال أبو جهاد: ليش سكت؟
قال كمال: أبو صطوف قبضاي، وشرس، وعلى قولة المتل "ضربته قبل كلمته"، لاكن لما شاف الشباب اللي دخلوا ع الدكان أحس بالخطر، خاف إنهم يكونوا عناصر مخابرات، خاصة إنه في واحد منهم كان طالع بوز مسدسه برات تيابه.. وقال لحاله: العلقة مع هدول الأوباش مو هينة.. ولما صار برات الدكان حط خطة جهنمية للتخلص من هالشاخصة الحقيرة.
قال أبو إبراهيم هازئاً: ما شاء الله. يا خيو أبو صطوف عقله منظم. بيحب التخطيط.
قال كمال: تنفيذ الخطة كان ع الشكل التالي: صارْ أبو صطوف يلزّْ بمقدمة التركتور على عمود الشاخصة الحديدي، ويدفشه لقدام، كل يوم خمسة أو ست سنتمترات، حتى وَقَّعُه أخيراً، وكتلة البحص والشمينتو اللي كانوا مثبتين العمود فيها طلعتْ من الأرض. انقلعت.
قال أبو الجود: أبو صطوف معلم ما في كلام.
قال كمال: إذا بتتذكروا بعد هزيمة الـ 1967 البعثيين رفعوا شعار "إزالة آثار العدوان". أبو صطوف الدكة طَبَّقْ هالشعار بحذافيره: ربط العمود مع الكتلة البيتونية بمؤخرة التركتور، وطلع فيه باتجاه طريق "فيلون"، لحتى وصل لطريق فرعي بيروح باتجاه الشرق، شي خمسمية متر، وقف، ونزل، فك الشاخصة ورجع ع الحارة، وصار يصف تركتوره في مكانه المعتاد، وبَرَاءَةُ الأطفالِ في عينيهِ!