حرب إسرائيل على الصحافيين في قطاع غزّة
"نحن ضحايا على الهواء مباشرة" كلمات قالها الصحافي سلمان بشير بعدما ألقى بدرع الصحافة (السترة الصحافية) أرضاً، وهو ينقل نبأ استشهاد زميله في تلفزيون فلسطين محمد أبو حطب بغارة إسرائيلية على منزله في خانيونس مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
بينما كتب الصحافي رشدي السراج قبل استشهاده: "لن نرحل.. وسنخرج من غزة إلى السماء وإلى السماء فقط"، في كل مرة يُقتل فيها صحافي يخسر العالم عيناً شاهدة على الحقيقة. فهل حقاً ستحاسب إسرائيل فعلاً؟ بل مَنْ سيحاسبها على جرائمها ضد الصحافيين، خاصة مع استمرار الدعم الأميركي والتمويل العسكري لها!
إن التحقيقات التي تُطبق على المستوى الدولي والتقارير الصادرة أيضاً لن تعيد إلينا شيرين أبو عاقلة ولن تجعل المصور سامي شحادة يمشي مجدداً ولن تحقق العدالة يوماً في عالم الغاب هذا، لأن العدالة الحقيقية هي ألا نخسر أيّاً من زملائنا وزميلاتنا. إن إسرائيل تدرك تماماً خطورة المعركة الإعلامية عليها مما يدفعها إلى اغتيال الصحافيين في القطاع في محاولة تغييبهم عن المشهد ومنع تأثيرهم وإسهامهم في تشكيل الرأي العام سواء على الصعيد الفلسطيني أو الإسرائيلي أو الدولي.
علاوة على ذلك، استمرار محاولات إسرائيل إسكات كل الأصوات الفلسطينية التي تفند الرواية الإسرائيلية وتدحضها، إذ تعتبر جزءاً من المعركة الإعلامية من خلال عرض حقيقة ما يجري على أرض المعركة والذي لولاه لما رأينا المسيرات الشعبية التي اجتاحت العالم دعماً لغزة.
عندما شنت إسرائيل حربها على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 انقلبت حياة الصحافيين في القطاع رأساً على عقب، إذ بات يواجه الصحافيون في القطاع تضييقاً إعلامياً كبيراً، كما أن عائلات الصحافيين أيضاً لم تسلم من عمليات الاعتقال والقصف المتعمد التي تقوم بها إسرائيل بصورة ممنهجة في محاولة التضييق عليهم وتحييدهم عن همهم في إيصال الخبر بلحظته إلى كل فلسطيني ومساومتهم على مهنيتهم في كشف الرواية الإسرائيلية المضللة وتعريتها وفضحها.
إن استهداف الصحافيين يشكل جزءاً من استراتيجية إسرائيل وسياستها المستمرة لكبت صوت الحقيقة وتشويه الصورة كاملة التي تكشف عن جرائمها المتكررة.
نعم، إن إسرائيل تغتال الصحافيين لأنها تخشى من تأثير الحرب في القطاع على باقي مفاصل حالة البيت الفلسطيني سواء في الضفة الغربية أو القدس أو الأراضي المحتلة عام 1948. فيتحول التحرك الجماهيري الشعبي واسع النطاق إلى عمل منظم يؤسس لحركة وطنية فلسطينية موحدة، وهو ما سيؤثر على رؤية إسرائيل المستقبلية في ما يتعلق بمستقبل المشروع الصهيوني في فلسطين. لذلك تعمد إسرائيل إلى القيام ببعض الخطوات الاستباقية باستهداف الصحافيين والمؤثرين في مجتمعهم خوفاً من تأثيرهم باتجاه الحراك المجتمعي والجماهيري ضد الممارسات الإسرائيلية.
وبالرغم من تباين الإحصائيات الصادرة عن عدة جهات حول عدد الضحايا الصحافيين، أحصت نقابة الصحافيين الفلسطينيين مقتل 140 صحافياً منذ بدء العدوان على غزة. مما يجعلها الفترة الأكثر دموية في ما يخص الصحافيين في العالم منذ عام 1992. أي منذ الحرب العالمية الثانية، إذ بلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا آنذاك 69 صحافياً خلال ست سنوات.
وما بين المهنة الموسومة بمهنة الشقاء والموت واستهداف الاحتلال المتعمد للصحافيين في القطاع وتلقيهم التهديدات عبر الهاتف مباشرة من قبل الجيش الإسرائيلي، ثمة معضلات وتحديات أخرى تواجه الصحافيين. إذ بات كثير من الصحافيين يخشون ارتداء السترة الواقية والخوذة التي هي في الأصل لا توفر الحماية وإنما نفسها أصبحت وسيلة لاستهداف الصحافيين في القطاع. ليس هذا فحسب، بل أصبح الناس يخشون الاقتراب منهم خوفاً من أن يتم استهدافهم من قبل الجيش الإسرائيلي حتى إن بعضهم لا يتمكن من استئجار منزل أو الركوب في المواصلات العامة أيضاً للسبب ذاته. فهل أصبحت الصحافة من المهن المثيرة للشبهة؟
إن فرضية مقتل الصحافيين نتيجة طبيعية ومتوقعة للحرب مثار كذبة وخدعة لا ولن تنطوي على عقولنا هذه المرة خصوصاً في ظل التمكن التكنولوجي. إن الجيش الإسرائيلي يضرب أهدافه بدرجة عالية من المعرفة بهوية من يقتل، وأضف إلى ذلك الطائرات المسيرة تحدد أهدافها بدقة استناداً إلى معلومات يتم جمعها من الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر.
فرضية مقتل الصحافيين نتيجة طبيعية ومتوقعة للحرب مثار كذبة وخدعة لا ولن تنطوي على عقولنا هذه المرة خصوصاً في ظل التمكن التكنولوجي
نعم، إن إسرائيل تعرف كل شيء. حتى بالطريقة نفسها للحواس التي يتمتع بها الناس تستطيع الطائرات المسيرة أن تسمع وترى، إذ تحتوي أجهزة استشعار يمكنها تحديد الأهداف عن طريق نقل البيانات المجمعة إلى محطة أرضية. وعليه، تكون الرؤية واضحة بما يكفي كي يتمكن مشغل الطائرة المسيرة من رؤية السترة الصحافية. كما أن إسرائيل نشرت نهاية عام 2023 برنامجاً في قطاع غزة للتعرف على الوجوه لإجراء مراقبة جماعية هناك وفهرسة وجوه الفلسطينيين من دون علمهم.
وعليه؛ فإن الاستهدافات المتوالية للصحافيين في القطاع تأتي أداةً ممنهجة ومخططة في الحرب على غزة، وبوصفها فعلاً يتماشى مع جميع التصريحات السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي شرعنت قتل الفلسطينيين في غزة على اعتبار أنه لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة. فهل ستنصف محكمة العدل الدولية الفلسطينيين يوماً ما؟ أم أن الغزيين خارج إطار الزمان والمكان ولا يخضعون لمعايير العدل الدولي؟