حديث عن فشّ الغلّ!
ذات مرة سألت الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم لماذا لم يقم بهجاء حسني مبارك بشكل مباشر مثلما هجا سابقيه، فصمت قليلاً ثم قال لي بنبرة تسليم: "وده يتهجي من أنهي اتجاه بس؟"، ثم صارحني بأنه حاول مرة أن يهجو مبارك فلم يستطع أن يخرج إلا ببيت شعر واحد قال فيه:
"سبحان من خلقك ونَشَاك
وصوّرك ستة في تسعة".
على حد علمي، لم يخلُ عصر في مصر من شعر يهجو حكامها بأبيات لاذعة، ومع أنّ عصر مبارك حظي بحرية نشر لم تشهدها العصور السابقة عليه، إلا أنه خلا من وجود حركة شعر هجاء صريحة لشخصه، فلم تظهر في هجائه قصيدة نارية مثل "يا محلا رجعة ضباطنا من على خط النار" التي هجت جمال عبد الناصر أو "عبد الجبار"، ولا قصيدة مثل "بيان شحاتة المعسل" التي هجت أنور السادات وزمانه، وقد يفسر البعض ذلك بأنّ الصحف المستقلة ومنتديات الإنترنت ورسائل المحمول تولت لعب هذا الدور "ثالث ومثلث" بالنيابة عن الشعر وأغنت عن الحاجة إليه، وهو تفسير أختلف معه، لأنه لا يوجد كتابة في الدنيا كلها تغني عن الشعر أو تقارب سحره وتأثيره على الناس.
سيظل الناس متعطشين دائماً وأبداً لاشتباك الشعر مع واقعهم البائس والمرير، ليس في ذلك شك، وإلا لما تم المرة تلو المرة إعادة تدوير أبيات الخال عبد الرحمن الأبنودي التي يقول فيها:
"ويهين المعنى الضابط، ويدوس بالجزمة على الحلم، ربنا رازقه بجهل، غانيه عن كل العلم"، منذ أن تم تركيبها بصوته أيام مبارك على فيديو تعذيب المواطن عماد الكبير، كأن المشهد وحده لم يكن كافياً للتعبير عن بشاعة ما رأوه، وحتى تم تركيبها بصوته أيضاً على صور وفيديوهات تعود إلى أزمنة المجلس العسكري والإخوان والسيسي.
لم يكن الأبنودي في قصيدته الأصلية (الأحزان العادية) يهجو عصراً أو حاكماً بعينه، بل كان يكتب وجع المواطن المصري البسيط في زنزانته الأبدية التي لا يتغير فيها إلا ألوان وجوه حراسها، ولذلك جاءت قصيدته عابرة للعصور، وهو ما ستجده أيضاً في قصيدته الخالدة (الجزر والمد) التي كتب فيها عن "الحاكم الصدفة أبو سحنة مخيفة وخايفة"، لتدرك كم يكتب الحكام الظالمون لقصائد الشعراء أعماراً جديدة، وكيف تعيش أشعارهم الحرة أكثر من أشعارهم البليدة التي مدحوا فيها "الحكام الصدفة"، ولذلك يتناسى الكثيرون ما كتبه الأبنودي قبل رحيله في مديح عبد الفتاح السيسي وهجاء معارضيه، ويستمرون في ترديد أشعاره التي يهجو فيها استبداد الحكم العسكري بحرارة عابرة للزمن:
"يا عم الضابط انت كداب
واللي بَعَتك كداب
مش بالذل حاشوفكم غير
ولا أسترجى منكم خير
انتو كلاب الحاكم
واحنا الطير
انتو التوجيه واحنا السيل
انتو لصوص القوت
واحنا بنبني بيوت
احنا الصوت ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت
احنا شعبين ..شعبين ..شعبين
شوف الأول فين؟
والتاني فين؟
وآدي الخط ما بين الاتنين بيفوت
إنتم بعتم الارض بفاسها.. بناسها
فى ميدان الدنيا فكّيتوا لباسها
بانت وش وضهر
بطن وصدر
والريحة سبقت طلعة أنفاسها
واحنا ولاد الكلب الشعب
إحنا بتوع الاجمل وطريقه الصعب
والضرب ببوز الجزمة وبسن الكعب
والموت فى الحرب".
هذه الرغبة الدائمة في فشّ الغلّ بالشعر من الحكام وفي الحكام، هي التي جعلت ملايين العرب عبر العقود الماضية يرددون قصائد نزار قباني وأحمد مطر ومظفر النواب كأنها كتبت للتو ضد هذا الحاكم أو ذاك، وهي التي جعلت كثيراً من المصريين في عهد مبارك يزينون صفحاتهم على "فيسبوك" بمقتطفات من القصائد التي كتبها في هجاء مبارك وأيامه شعراء مثل حسن طلب وعبد الرحمن يوسف وعم أمين الديب "شاعر الفلاحين" الذي عندما حاول أن ينشر أشعاره على شرائط كاسيت اعتقله الأمن وصادر شرائطه، فأعاد إلى الأذهان تعذيب نظام مبارك للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر في أوائل التسعينات، وما حدث للاثنين على اختلاف شعريهما وظروف قمعهما يؤكد أنّ أي نظام أمني مهما بلغ جهله حريص على أن يرث عن كتالوغات سابقيه "التعليمة" التي تقضي بخطورة الشعر على الأنظمة الفاسدة.
بالتأكيد، خوف الناس من القمع الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في الجنون، ربما يجعل بعضهم الآن يقرر أن يهجو نظام الحكم ورأسه السيسي في شعر سري أو شفوي تتداوله القعدات ولا تدونه الأوراق. كان ذلك يحدث في أيام مبارك برغم ارتفاع هامش الحرية بصورة لم تشهدها مصر منذ حكمها العسكر، ومع ذلك فقد كان الخوف التاريخي من بطش الحاكم يدفع البعض إلى كتابة قصائد هجائية لا يوقع عليها اسمه، ولكي يضمن تحمس الآخرين لنشرها عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كان يضع عليها اسم شاعر مشهور، مع أن ما يرد في القصيدة لا علاقة له بالشعر، بل هو مجرد "هرتلة" يفضفض بها مقهور مع روحه أو على روحه.
ذات مرة نسب أحدهم قصيدة ركيكة إلى عمنا نجم في هجاء حسني مبارك، ونفى نجم ذلك ليس تعففا من كون الأبيات جريئة وأحيانا شبه بذيئة، بل لأن بذاءتها وجرأتها كانا يخلوان من أي فن، وربما ظن الناس أنّ القصيدة من نظم نجم، لأنّ كاتبها حاول أن يقلد أرجوزة (عريس الغفلة) والتي لم تكن للأمانة تضاهي عبقريات نجم التي خلدها الزمن برغم قصفه لأعمار من هجتهم تلك القصائد.
بالطبع، هجاء الحاكم سراً وشفوياً ليس بجديد في مصر، وأشهر من قام به شاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم الذي اختار أن يهجو حكام عصره سراً، وكان يقول لندمائه: "إن الإنجليز نفوا الزعيم محمد فريد خارج مصر لأنه كتب مقالاً يمدح شعر الشيخ علي الغاياتي فما الذي سيفعلونه بي لو نشرت شعراً أقسى من شعر الغاياتي".
مع الأسف أضاع الزمان كثيراً مما أطلق عليه عباس العقاد (ديوان حافظ الشفوي)، لكنه حفظ لنا تلك الأبيات التي قالها سراً في هجاء الملك فؤاد ثم تم ضمها رسمياً إلى الطبعة الثالثة لديوانه، وجاء في بعضها قوله:
"يا مليكاً بِرَغمِهِ يلبسُ التاجَ
ويرقى بعرشِهِ مملوكا
إن أتمّت يداكَ خرابَ مِصرَ
فلقد مهّدَ الخرابَ أبوكا
أبقِ شيئاً إذا أمضيتَ وفيما
عن قريبٍ يأتي عليهِ بنوكا"
وهي أبيات لم يكن حافظ إبراهيم يتصور أنها ستكون عابرة للأزمان، لتصبح صالحة لهجاء كل الراغبين في وراثة عرش مصر من آبائهم، بدءاً بالملك فؤاد ومروراً بجمال مبارك وليس انتهاءً بمحمود السيسي.
...
نشرت كتابة أولى لهذه السطور عام 2008، وهذه إعادة كتابة لها بعد أن أصبحت أي محاولة لفشّ الغلّ على الملأ من موجبات خراب البيوت وتضييع الأعمار في السجون، ومن يدري، ما الذي ستكشفه لنا الأيام من محاولات فش الغلّ السرية.