"حديث الألف"... عودة لأيام الزمن الجميل
قبل مئات السنين، حضرت جلسة أدبية عنوانها "حديث الباء، أو التاء، الثاء"، أو لعلّه "حديث الألف". تحدّث الضيف الذي أقبل من العالم الجديد عن طرف من تجربته الروائية، عن بعض من الصدامات والصراعات التي خلّفها في دار السلام، عن الواقع الأليم لبلده منذ عصر الديكتاتورية ومناوشة الجيران، مرورًا بالغزو والمستعمر الجديد، وصولًا إلى ذلك الزمن الذي جرت فيه الجلسة الأدبية إياها، قبل مئات السنين.
لعلّك تستغرب (أو لا تستغرب)، أن يسأل أحدهم الرجل (وهو أكاديمي يتعاطى كتابة الرواية) عن بواعث تمسّكه، وآخرين، بكتابة الرواية عن بلدهم ومنبتهم، بينما هم يعيشون في عالم آخر، ويفترض أن يكتبوا عن ذلك العالم!.
قبل عشرات السنين أجاب هنري جيمس عن هذا السؤال، فقال "يجب على الروائي أن يكتب تجربته الخاصة... اكتب عن تجربتك ولا شيء سوى تجربتك" (نظرية الرواية، ص82).
الواقع المَعيش يقول إنّ الإنسان يكتب من خلال واقعه وخبرته، قد يتمدّد خياله، يمنةً ويسرةً، غير أنّه لا ينسلخ من واقعه بأيّة حال. فالكاتب ألبير قصيري، الذي غادر مصر نهائيًا وهو في سن السابعة عشرة، ترك مصر جغرافيًا ولم يفارقها روحًا وشعورًا، إذ ظلّ يكتب (وهو نزيل فندق "لا لويزيان" في حي سان جيرمان في باريس) عن مصر، نحو خمسة عقود، ولم يكتب رواية واحدة عن فرنسا، أو غيرها.
الأمثلة على ذلك تستعصي على الحصر، ويؤطر هذا المعنى الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب بقوله: "الشمس أجمل في بلادي/ من سواها. والظلام/ حتّى الظلام هناك أجمل". لكن، الظلام ليس جميلًا ما لم يكن في نطاق أدبي فني، لا في بلادي ولا في غيرها، لكن سكان وادي عبقر لهم شطحات لا تخلو من شوفينية أحياناً، لعلّهم تأثروا ببني جلدتنا!.
بالطبع، الرواية وسيلة للهروب من الواقع، وبتعبير ألبير كامو "بالرواية نستطيع الإفلات من الواقع، أن نقول له: لا". ومن ثمّ يُمكن للروائي أن يكتب عن المدينة الجديدة بعد مدّة من العيش فيها، أو حتى زيارتها. زار الروائي حجي جابر فلسطين خلال التحضير لكتابة "رغوة سوداء"، وهذا أمر ليس بغريب، فإن ضربت في أعماق التراث، وجدت أنّ محمد بن عمر الواقدي (صاحب "التاريخ والمغازي") لم يكتب عن غزوة إلا وزار موقعها، العهدة في ذلك على كاتبه محمد بن سعد صاحب كتاب "الطبقات".
"حديث الألف" لبنة مهمّة من لبنات الأدب، أعاد للذاكرة برامج تلفزيونية ماتعة جمعت المبدع والجمهور وجهًا لوجه
دع عنك أنّ الواقدي مطعونٌ متكلَّمٌ فيه، قالوا إنّه كان يضع الحديث، ونحن هنا لا نتكلم عن الحديث إذ له رجالاته، إنّما المقصد هنا الحكي، والواقدي حكّاء من طراز فريد، تأثّر به عبد الحميد جودة السّحّار، مثل ما تأثّر يحيى حقي بـ"الجبرتي". المعايشة لدى "الواقدي"، أضفت إلى طريقته الكتابية وخلعت عليها من أردية الصدق الفني، أو التخييل، الشيءَ الكثير.
وليس إلزاميًا أن يعيش المرء واقعةً ليكتب عنها. على سبيل الذكر، كتب الروائي العراقي علي بدر رواية "مصابيح أورشليم"، قبل أن يزور القدس. وحين زارها، وجد أنّ الواقع يختلف عن الخريطة، وأنّ تصوّره عن المدينة لم يكن صحيحًا، وكان قد سبق له أن كتب رواية "بابا سارتر" قبل أن يزور باريس، ثم زارها لاحقًا ووجدها مختلفة تمامًا عن تصوّره لها وفكرته عنها. وصف باريس اعتمادًا على مذكرات كتّاب عاشوا في عاصمة النور (وفق التسمية الشائعة، وليس بالضرورة أن تكون صادقة) والصور والأفلام.
ولاحقًا، قال له محرّر ترجمة "بابا سارتر" إنّه وقع في خطأ واحد، يتمثّل في عدم وجود كراسي بلاستيكية في فرنسا خلال ستينيات القرن العشرين. وفي "صخب ونساء وكاتب مغمور"، كتب عن مدينة طنجة المغربية، ولم يزر طنجة قبل ذلك، إنّما اتكأ على خياله، وبعض قراءاته عن المدينة، فضلًا عن مواد مصوّرة.
فلسفة علي بدر في هذا الخصوص تتمثل في "أكتبُ عن المدن التي لا أراها أكثر من المدن التي أراها، فالمدينة التي تراها العين تكتشفها، بينما التي لم ترها بعد تحلم بها". لا يمكن أن نحكم على ذلك بالصحة أو الخطأ، هو فن، والفنون جنون، وكلّ شيخ وله طريقته.
بالجملة، ليس منطقيًا ألّا يعيش الإنسان حادثة أو فكرة (أو يعايشها) وينبري للكتابة عنها، ويتأنّى كثيرون في مسألة الكتابة عن محيط جديد، إذ يرون أنّ ذلك يقتضي معايشة طويلة وإلمامًا بتفاصيل دقيقة، لإنجاز عمل روائي قوي مؤثّر.
يسأل أحدهم سؤالًا، يجيب الضيف: "ألم تسألني هذا السؤال من خمس سنوات؟". يقول جاري الذي لا يعرفني ولا أعرفه "يا عم الكريستا مفيهاش شيكولاتة، معندكش سؤال بتمسك الحديدة ليه؟"، ينظر لي جاري الذي لا يعرفني ولا أعرفه، أبتسم، فيتشجّع ويسألني "ولا إيه؟"، أرد والابتسامة على حالها "ولا آه".
لن أخبرك أن أحدهم سأل عن...، ولا بلاش، ليس كلّ ما يُعرف (أو يُسمع) يا هذا يقال، لكن الذي يستأهل الذكر أكثر من غيره أنّ هذا الحديث لبنة مهمّة من لبنات الأدب، أعاد للذاكرة برامج تلفزيونية ماتعة جمعت المبدع والجمهور وجهًا لوجه، ينضاف إلى ذلك أنّ الحديث المشار إليه آنفًا جمع المبدع والجمهور الواقعي في مكان واحد، ومعهما لفيف من الجمهور الافتراضي. مزيّة لم تعرفها برامج مثل "نجمك المفضل"، أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية القديمة مثل "زيارة إلى مكتبة فلان"، "كاتب وقصة"، "حديث الذكريات"، أو حتى النسخ الحديثة منها على شاكلة "بيت ياسين"، "وصفوا لي الصبر"، وأضرابها.