حتى حكومة بيليز يا عرب!
عوضًا عن هذا الخذلان والتراجع الفاضحين في مواقف الدول العربية والإسلامية الحاضنة الأساسية للقضية الفلسطينية (ولا نستثني من ذلك أحداً)، كان الدعم هائلًا على امتداد خريطة العالم، بشرقه وغربه، فجاء عزاءً لأهلنا في غزّة ليبلسم جرحهم النازف على يد أصحاب الضمائر الحيّة والفطرة السليمة من أحرار العالم. وقد حدث ذلك بصورة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب المحتل، إذ عبّر المتضامنون عن مواقفهم في العلن، وبطريقة مدهشة، وبوضوح كبير، رافضين ممارسات الاحتلال، وداعمين لحق الشعب الفلسطيني في العيش الآمن على أرضه، مرفوع الرأس، موفور الكرامة.
ومنذ بداية العدوان، بات السبت يومًا ثابتًا للتظاهر في قلب أوروبا من لندن إلى باريس مرورًا ببرلين. كما شهدت "ملبورن" في أستراليا والعاصمة الفنلندية هلسنكي، مسيرات حاشدة ومؤيّدة للحق الفلسطيني، ووصلت الاحتجاجات إلى مسامع عجوز البيت الأبيض، جو بايدن، لتحاصره وتقض مضجعه، مطالبةً بإنهاء الاحتلال وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وكانت دول أميركا اللاتينية حاضرة في الموعد، بخاصة كوبا وهندوراس وبوليفيا وكولومبيا وتشيلي... تنديدًا بممارسات جيش الاحتلال.
الطوفان فضح سردية الاحتلال الكاذبة
ولا شك في أنّ المشاهد الحيّة التي تبثها مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات على مدار الساعة، كان لها القول الفصل في فضح جرائم الاحتلال، كما ساهمت في تصحيح المفاهيم المغلوطة التي روّج لها العدو عبر سرديته الكاذبة. وما إن كُشف زيف دعايته السوداء حتى وقع الانفجار الإنساني والتحم الطوفان البشري العالمي بمعركة طوفان الأقصى، معلنًا رفضه للظلم وتمرّده على الرواية التي ظلّ المحتل يرويها منفردًا طوال عقود. وثمار ذلك لا يمكن تجاهلها، وقد رصدتها وكالة رويترز، حينما نشرت في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني نتائج دراسة عن آلاف التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، والتي شارك فيها الملايين مقابل عدد محدود بالعشرات مؤيّد لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولعلّ أهمية رصد ما يجرى على امتداد الكرة الأرضية، تكمن في أنّه يسطّر تاريخًا جديدًا تدوّنه دماء زكية طاهرة لأنبل من أنجبت أمتنا، ويرسخ في الوجدان حقيقة هزيمة الاحتلال، وأنّ زواله بات مسألة وقت لا أكثر. ومهما قدمت الحكومات الأوروبية والأميركية من دعم لجيش الصهاينة، فإنّه لن يفلح مطلقًا في استعادة زمام الأمور، مهما ارتكب من مذابح ضد الأبرياء العزّل، إذ هزّت معركة طوفان الأقصى صورة الاحتلال إلى الأبد، وكشف رجال المقاومة أنّ زيف وهشاشة أسطورته توازي حجم الادّعاء بحقه المزعوم في أرضنا من البحر إلى النهر، وذلك وبفضل الصمود البطولي لشعبنا في غزّة العزة، إذ استعادت القضية ألقها وزخمها من جديد كقضية صراع وجود لا حدود، رغم أنف الدجالين ممن يروّجون لأوهام التفاوض لإقرار حق الدولتين.
استعادت القضية الفلسطينية ألقها وزخمها من جديد كقضية صراع وجود لا حدود
لكن من زاوية أخرى، فإنّ أحرار العالم، وبسبب ما فعلوا من تضامن واسع مع فلسطين، وضعونا جميعاً (حتى أنت يا أنا) في مأزق صعب، وكشفوا مدى تخاذلنا بكلّ مؤسساتنا الرسمية والأهلية عن نصرة الأشقاء، فلا يمكن تجاهل المقارنة مثلًا بين قوة مواقف أحرار العالم مع مخرجات القمة العربية الإسلامية المشتركة، والتي تأكد بعد مرور ما يقرب من شهر أنّها كانت مجرّد كلام فارغ، وأنّ بيانها لا يساوي ما كُتبت به من حبر، فضلًا عن أنّها في الأساس لم تلبّ الحدّ الأدنى من الدعم والمساندة، مع اكتفاء الغالبية بمواقفهم الباهتة للشجب والإدانة واستجداء وقف العدوان. لكن وللحقيقة، فقد تبارى الجميع وأقاموا جسورًا جوية لشحن الأكفان وبعض المؤن، وكأنّ منطقهم السقيم يقول إنّه لا يليق أن يموت الأشقاء بالصواريخ والقنابل الذكية بينما يتضوّرون جوعًا!
بيد أنه، وخلال متابعتنا المستمرة لما يجري من عدوان وصل صداه إلى كلّ مكان، ربّما لم ننتبه بالقدر الكافي لمضمون خبر صغير يشير إلى أنّ حكومة بيليز (وهي دولة صغيرة في أميركا الوسطى تقع على البحر الكاريبي)، قد انضمت إلى مجموعة الدول التي اتخذت قرار تعليق العلاقات مع دولة الاحتلال ردّاً على العدوان الإجرامي لجيش الصهاينة.
قراءة اسم هذا البلد كما ننطقه باللغة الإنكليزية سوف يستدعي على الفور معناه القريب وترجمته إلى العربية والتي تعني من فضلك. وبالقطع، عندما نصفه بأنه بلد صغير (لا يبلغ عدد سكانه نصف مليون نسمة)، فإنّنا لا نقصد التقليل من شأنه، بل للدلالة فقط على ما بلغته أمّة المليار ونصف مليار نسمة من ضعف وهوان وقلّة حيلة نحسب أنها غير مسبوقة في التاريخ الحديث. هذا البلد الصغير جاء موقفه كبيراً، تجلّى في استصراخ ضمائرنا لنتحرّك، طالما أنّ مشاهد الأشلاء الآدمية لأهلنا وصرخات الثكالى والأرامل والأطفال لم تحرّك نخوتنا أو تثير الدماء في عروقنا.
في ضوء ما تقدم، تُرى لو عاد الزمان بالشاعر الفلسطيني الراحل الكبير محمود درويش، هل كان لينشد رائعته الشعرية الخالدة "سجل أنا عربي"؟ تلك القصيدة الأيقونة التي جسّدت لدى الأجيال معاني وحدة المصير والميراث المشترك. أم كان أولى به أن يكتب شعرًا لكوبا كاسترو وجنوب أفريقيا مانديلا؟
ليت من يملك الإجابة لا يبخل علينا. بلييز.