جولة في مشوار الأستاذ علي عبد الخالق (3)
يكمل المخرج الكبير الأستاذ علي عبد الخالق حديثه قائلاً:
من الأفلام اللي تأثرنا بيها كجيل في الفترة دي أفلام مدرسة السينما الجديدة اللي نشأت من خلال مجلة (كراسات السينما) الفرنسية وطلع من المجلة مجموعة نقاد وكتاب مهتمين بالسينما قرروا يتحولوا للعمل السينمائي وعملوا مجموعة أفلام غيرت شكل السينما في العالم، الحقيقة كانت حالة ثقافية مهمة وجميلة، وكنا بنقدم فرصة الفرجة على الأفلام دي مش بس لأعضاء جماعة السينما الجديدة ولكن لأي صحفي أو زميل سينمائي أو محب للمتابعة.
المهم في الفترة دي، لما صادفتني مشاكل في عمل فيلم (أغنية على الممر) والفيلم كانت خلاص الدولة هتنتجه لكن حصل تعثر، وراحوا بعدها ينتجوا فيلم تاني، طلع اقتراح من أعضاء جماعة السينما الجديدة إننا نحاول نعمل الفيلم ده وناخد سلفة من المؤسسة العامة للسينما زي ما المنتجين ما بيعملوا، كان في الفترة دي المنتج مثلا هيعمل فيلم نقول ميزانيته ألف جنيه، المؤسسة تدّيله سلفة 600 جنيه وهو يحط الـ 400 الباقية من جيبه، والفيلم يتعمل، وفعلا حصل حماس للفكرة دي وعرضناها على مسئول التوزيع في المؤسسة في الفترة دي، الأستاذ عبد المجيد أبو زيد رحمة الله عليه، كل الناس ماتوا ما بقاش إلا أنا (يتنهد ثم يضحك).
المهم الأستاذ عبد المجيد تحمس الحقيقة للمشروع وكان وقتها عضو بارز في الاتحاد الاشتراكي اللي هو الحزب الحاكم، كان على ما أذكر أمين العاصمة، فكان على صلة بالقيادات السياسية الفترة دي، ومن حسن الحظ إنه تحمس للفيلم، ولفيلم تاني اللي هو (ظلال على الجانب الآخر) اللي كان مشروع للمخرج الفلسطيني غالب شعث، واللي كان عضو في الجماعة وما كانش عارف يعمل فيلمه بقى له فترة، فقرر عبد المجيد أبو زيد دعم الفيلمين وفعلا الفيلمين أنتجوا في وقت واحد تقريباً من خلال جماعة السينما الجديدة ودعم المؤسسة، وقدرنا نتخطى أهم عقبة وهي الإنتاج.
بعد كده في مرحلة التسويق للفيلم كان في مكان مهم اسمه نادي سينما القاهرة كان مشترك فيه صفوة المجتمع، بيتعمل يوم الأربعاء مرة أو مرتين في الشهر مش فاكر بالضبط، لكن كان فيه أعضاء كل رؤساء تحرير الصحف والمجلات والصحفيين الكبار وإعلاميين وفنانين، كلهم أعضاء باشتراك سنوي وكان مشرف عليه الناقد السينمائي أحمد الحضري رحمة الله عليه، وكان النادي بيعرض أفلام مهمة جداً، ومش بتكون موجودة في السينما بسهولة، فاكر إني حضرت فيه مرة عرض فيلم المومياء وكان شكل الجمهور مبهر بالنسبة لي كشاب، الستات جاية بالفوريرات والرجالة بالبدل الكاملة، وبيتعمل حفلة سواريه الساعة تسعة، وبعدين في يوم عرضوا فيلم (الحاجز) من إخراج محمد راضي واللي في الفترة دي كان رئيس جماعة السينما الجديدة ومنتج فني للفيلمين اللي بننتجهم: أغنية على الممر وظلال على الجانب الآخر.بعد عرض فيلم محمد راضي اتعملت ندوة وكانت فظيعة، يعني كل الحاضرين تقريبا هاجموا الفيلم بشكل شرس جدا، لدرجة إني اتخضيت، كنت وقتها شاب صغير عندي 27 سنة، زعلت وقلت يا نهار اسود أنا هيحصلي كده لما أعرض فيلمي، لأ أنا ما ينفعش أشتغل الشغلانة دي، فقررت بيني وبين نفسي إن أنا أهرب بقى وأسيب تصوير الفيلم اللي كنت بدأت فيه قررت أسافر اسكندرية، وبالتالي هيدوروا عليا ويوم واتنين مش هيلاقوني هيهدوا الديكور أو يجيبوا حد تاني يخرج الفيلم وتبقى نهايتي كمخرج، وما حدش هيقرر يجيبني ولا أنا هافكر أخرج حاجة.
اتعلمت من التجربة دي حاجة أساسية أفادتني في حياتي إنه ليس أفضل الأفلام هي اللي بتحصل على جوائز بالضرورة، ولكن دايما في اعتبارات أخرى أحيانا سياسية وأحيانا مجاملات
ـ لكن ليه حضرتك ما فكرتش إن فيلم (الحاجز) يستحق النقد الشرس اللي أتوجه له وإن شغلك هيكون مختلف؟
هو فيلم (الحاجز) على فكرة بعد سنين طويلة من اللي حصل ده شفت ندوة معمولة عنه في التلفزيون واتقال بصيغة المدح إن ده أول فيلم سريالي في السينما المصرية وكان الاستقبال ليه مختلف، لكن أنا وقتها حصل لي صدمة لدرجة إني قررت إني مش هاقول لأهلي أنا فين وقررت إني لا أصلح للشغلانة دي إطلاقا، وحصل فعل وسافرت وقضيت ليلة ما نمتش فيها ولا ثانية لإن كان قرار صعب إني أطلع من السينما وأنا اللي ما أتصورش حياتي بعيد عنها، لكن لما جه الصبح لقيت نفسي باتراجع عن القرار وقررت أنزل القاهرة وأكمل الفيلم أيا كانت التحديات وردود الفعل، ولما طلعت أول نسخة من المعمل وشافوا الفيلم في مؤسسة السينما قالوا ده فيلم ينفع يروح نادي السينما، لإن مستواه كويس، وطبعا كنت حاطط إيدي على قلبي وقلت اللي حصل مع محمد راضي هيحصل معايا، لكن الحمد لله ده ما حصلش ولاقى الفيلم استحسان من كل الحاضرين.
ـ هو الفيلم ما لقاش بس نجاح نقدي ولكن كمان حقق نجاح جماهيري؟
ده صحيح، والحقيقة الفضل في ده بعد ربنا للأستاذ عبد المجيد أبو زيد اللي ساعد إن الفيلم يكسب جماهيريا، يعني كان في عرف في السينما المصرية إن الفيلم اللي يقعد أسبوعين في السينما يبقى نجح واللي يقعد ثلاث أسابيع يبقى حقق نجاح هايل وحقق إيرادات خرافية، والفيلم كان وصل أسبوعه الثالث وخلاص هيتشال، فالأستاذ عبد المجيد عزم الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية، وعزم المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الأمة اللي هو مجلس الشعب بعد كده، وطبعا قدر يعمل ده بحكم مركزه وعلاقاته بالمسئولين، وعرضناه ليهم في قاعة صغيرة في سينما ريفولي تسع لحوالي 15 أو عشرين متفرج، ولما دخل سيد مرعي قال لنا إن وزير الحربية هيقعد ساعة بس لإنه مرتبط بموعد مهم ومش هيقدر يكمل الفيلم، لكن لقيته قعد لحد الآخر، فانبسطت جدا، وبعد انتهاء الفيلم قال لي الفريق صادق تعبير لا أنساه، قال لي: الفيلم منضبط عسكرياً جداً، وسألني: مين مستشارك العسكري، والحقيقة أنا ما كانش عندي مستشار عسكري بمعنى الكلمة المتعارف عليه في السينما العالمية مثلاً، كان في عقيد جيش هو مدير المتحف الحربي وكان حلقة الوصل مع الجيش وبيجيب لنا المعدات اللي بنصور بيها، قلت له فلان يا افندم، قال لي: ده فيلم منضبط جداً، ابعتوه ليبيا، بالضبط ده كان نص كلامه، كان يقصد يتعرض للجيش الليبي وللجنود المصريين في ليبيا اللي كانوا بيساندوا الثورة الليبية اللي كانت قامت قبلها بفترة.
بعدين سألني: طيب انتو ليكو مطالب؟ كنت واقف معاه أنا والمنتج الفني محمد راضي، قلنا له يا افندم الفيلم اللي حضرتك شفته ده تكلفته 19 ألف جنيه تقريبا، والجيش خد مننا 4 آلاف جنيه مقابل المعدات اللي ظهرت في الفيلم، قال طيب النهارده تروحوا للواء فلان مدير الشئون المعنوية في مصر الجديدة هتلاقوا شيك بالمبلغ اللي دفعتوه، هل ليكو مطالب تانية، قلت له: لا يا افندم، وبعدين افتكرت إنه في الوقت ده كانت الأفلام بتتعمل على شرائط 16 ميلليمتر، بحيث ممكن يكون في نسخ منها صغيرة بحيث تتشال في شنط ويكون عرضها سهل، فتقدر وزارة التربية والتعليم تعرض أفلام في المدارس ووزارة الثقافة تعرض في قصور الثقافة والجيش يعرض في المعسكرات للجنود والضباط، فقلت له: هل ممكن الجيش يا افندم يشتري نسخ 16 ميلليمتر، فقال: لأ هنشتري نسخ 30 ميلليمتر ونعرضها، هل ليكم طلبات تانية؟ قلنا له: لا يا افندم، وبعدين قلت له: يا افندم الفيلم بيتعرض حاليا في سينما ديانا فلو الجيش ممكن يشتري حفلات من الفيلم عشان يتيح الفرصة لناس أكتر يشوفوه، كان الجيش وقتها بيشتري حفلات في سينما وفي مسارح كترفيه للضباط والجنود، وفوجئت بيه يقول أوكيه الجيش هيشتري 3 أسابيع الأربع حفلات، وده كان الرقم اللي أنتجنا بيه الفيلم غير طبعا الإيرادات اللي جابها الفيلم وبالتالي الفيلم حقق مكسب كبير للمؤسسة العامة للسينما وعشان كده لا يمكن أنسى فضل الأستاذ عبد المجيد أبو زيد في تحقيق ده.
ـ المدهش في الفيلم ده هو إنه عاش عمر طويل وحقق نجاح عند أجيال مختلفة، وأصبح بيُضرب بيه المثل في الأفلام الوطنية اللي ما فيهاش شعارات وطنطنة، حضرتك بتستقبل النجاح ده إزاي؟
بيسعدني ويشرفني طبعا، ولو إني ما أعرفش ليه مش بيتعرض في التلفزيون المصري الحكومي، لكن طبعا ردود الأفعال على عرضه في كل القنوات الخاصة والعربية مشرفة ومفرحة، بالمناسبة الفيلم اشترك سنة 1972 في مهرجان كارلو فيفاري اللي كان من أهم خمس مهرجانات سينما في العالم بعد كان وبرلين وفينيسيا وموسكو، وما تمش ترشيحه من الدولة مثلا، لأ، ده عميد معهد السينما في تشيكوسلوفاكيا وكان وقتها مسئول عن المهرجان جه مصر عشان يختار فيلم من مجموعة أفلام مصرية فاختار الفيلم، ودخل الفيلم المهرجان ورحنا وسافر معايا وفد كبير من السينمائيين والصحفيين على نفقة الدولة، وكسب الفيلم الجائزة الثانية، ورغم إن الفيلم أخذ جوائز كثيرة بس دي كانت هم جائزة، وفاكر إن كارلو فيفاري في الوقت ده كان بيتعمل بالتبادل مع مهرجان موسكو، يعني هو سنة ومهرجان موسكو، وفي سنة 1974 فوجئت إنهم اختاروني عضو في لجنة التحكيم، وكانت لجنة تحكيم دولية يعني فيها أعضاء من أمريكا وأوروبا، مش عارف بقى هل ما لقوش حد معروف في أفريقيا فقالوا هاتوا الولد اللي أخد الجائزة في الدورة اللي فاتت، لكن المهم إني لقيت نفسي عضو لجنة تحكيم مع أعضاء منهم البروفيسور عميد معهد السينما ومصور حاصل على الأوسكار ومخرج روسي، كلها شخصيات تقيلة ولها تاريخ وأنا كنت أصغر واحد وأقل قيمة وما عنديش التاريخ الموجود اللي عند كل الناس اللي موجودة دي وكانت تجربة مهمة جدا بالنسبة لي.
اتعلمت من التجربة دي حاجة أساسية أفادتني في حياتي إنه ليس أفضل الأفلام هي اللي بتحصل على جوائز بالضرورة، ولكن دايما في اعتبارات أخرى أحيانا سياسية وأحيانا مجاملات، يعني يقول لك مثلا إزاي البلد المضيفة للمهرجان ما تاخدش جايزة، والحقيقة ده خلاني بعد كده ما أهتمش بالمهرجانات، وأهتم بإن فيلمي ينجح مع الناس، وبقى لا همي نقد ولا المهرجانات اللي هي أعلى من النقد، مع إني طالع من وسط أصدقاء نقاد، لكن كل ده بقى بره حساباتي وبقى كل همي إني أعمل أفلام ذات قيمة أنا مقتنع بيها وتعجب الناس، وبقيت مؤمن إن الفيلم كلما شافه عدد أكبر كلما وصلت رسالته أكتر. يعني الفيلم مش زي الفن التشكيلي، إني أعمل لوحة وأفرجها لخمسة من أصحابي أو المهتمين بالفن التشكيلي وخلاص، لأ، الفيلم فن جماهيري كلما شاهده عدد أكبر من الناس كلما وصلت رسالته أكتر، ده اللي أنا اشتغلت عليه في سنين عملي بالسينما، صحيح بعض أفلامي بعد كده راح يتعرض في مهرجانات ولكني لم أسع لهذا، ما فيش فيلم عملته مش مقتنع بيه، حتى لو أنا مقتنع إني أنا عملته عشان احتياج مادي، ده اقتناع برضه، وده ينطبق على 40 فيلم عملتهم غير الأفلام التسجيلية وسبع مسلسلات.
ـ في صناع أفلام ما بيحبوش يتفرجوا على أفلامهم بعد عملها؟
أنا باستمتع بأفلامي لما باتفرج عليها، لإن الحقيقة مش باتفرج على الفيلم بس، باتفرج على شريط ذكريات باشوفه مع الفيلم، برغم إن في أفلام ممكن يكون فات عليها سنين كتير جدا لكن الفرجة عليها بتصحي جوايا ذكريات، كإني زي ما بيقولوا علماء النفس بافتح صندوق اللي هو الذاكرة، لكن أنا عودت نفسي من زمان إن القصص التافهة ما أحطهاش جوه صندوق الذكريات ده خالص، يعني فلان طلق فلانة أو اتجوز فلانة خلال الفيلم ده أو مين اتخانق مع مين، باحط بس الحاجات المهمة، وعشان كده لما يسألوني إيه أحب فيلم ليك، أقول لهم كل أفلامي لإن كل أفلامي كانت ذكريات حلوة من عمري.
...
نكمل غدا بإذن الله.