جنون الحكَّام في المباراة الحاسمة
(الجزء الخامس والأخير من أسطورة الأستاذ)
نزل الحكام الأربعة، في المباراة الأخيرة من دوري الدرجة الثانية بين الفريق سين والفريق صاد، إلى أرض الملعب وقد حفظوا الدرس جيداً، وهو التالي: يجب أن يفوز الفريق سين الذي يدعمه "الأستاذ" المتنفذ على الفريق صاد بفارق هدف واحد على الأقل، حتماً، وذلك لكي يضمن صدارة الدوري، ومن ثم يصعد إلى دوري الدرجة الأولى. وإلا..
عناصر الكوميديا والتراجيديا، كلها متوفرة في هذا الموقف.
العنصر الأول: شاهدَ الحكامُ الأربعة في شاليه الأستاذ زميلَهم الذي حَكَّمَ ضميره في مباراة سابقة وتسببَ بخسارة الفريق سين، وقد أصبح بين الحياة والموت.
العنصر الثاني: شاهدوا الصرف، والبذخ، والعطاء غير المحدود الذي يبذله الأستاذ لمن يساعده في كسب المباراة، وقبل أن يخرجوا من عنده، بعد العشاء الفاخر، سلمهم مرافقُهُ أربعة مغلفات، فتحوها بعد المغادرة فوجدوا فيها أربعة شيكات موقعة على بياض، وقد تُرك حقل المبلغ فارغاً، يملؤه كل واحد منهم بالرقم الذي يريد، ويقبضه من المصرف التجاري السوري، ولكن بعد المباراة، أي بعد تحقق الفوز.
العنصر الثالث: يعرف الحكامُ الأربعة أنه لا يوجد تكافؤ في المستوى بين الفريقين المتخاصمين، فالفريق صاد الملقب (برشلونه الشرق) قادر أن ينكل بالفريق سين تنكيلاً، وإذا كان التحكيم نزيهاً فلن تقل النتيجة عن أربعة صفر لصالح صاد..
لهذا كله؛ اتفق الحكام على أن يحبطوا معظم هجمات الفريق صاد برايةِ التسلل، وأن يَغُضّ حَكَمَا التماس البصرَ عن تسلل مهاجمي سين إذا حصل، وإذا سجل صاد هدفاً لا لبس فيه، يمكن احتسابه، شريطة أن يسعى فريق التحكيم لأن يحرز الفريقُ سين التعادلَ أولاً، ثم هدف الفوز قبل وصول المباراة إلى دقيقتها الأخيرة.
أسقط أحد مهاجمي سين نفسه في منطقة الجزاء دون أن يحتك به أحد، ومع ذلك احتسب له حكم الساحة ضربة جزاء
طلب حكم الساحة من أحد معاوني الأستاذ أن يجمعه سراً بمدرب الفريق سين، قبل بدء المباراة، وعندما تم اللقاء طلب الحكم من المدرب أن يتجنب عناصرُ فريقه الخشونة المتعمدة في البداية، فإذا تقدم عليهم الفريق صاد، يمكنهم أن يحققوا التعادل والفوز من خلال الهجوم من العمق، ففي هذه الحالة سيحصل احتكاك قوي مع عناصر دفاع صاد، أنتَ أوصِ مهاجميك أن يسقطوا على الأرض عند حصول أي تماس، ويتدحرجوا، ويصيحوا بقوة، وأنا (أي حكم الساحة)، في هذه الحالة أعطيكم ضربة حرة غير مباشرة، أو ركلة جزاء.. واتفق معه، ألا يحتج إذا رفع الحكم البطاقة الصفراء لواحد من لاعبيه أو أكثر، فهذا يفيد للتأكيد على نزاهة التحكيم أمام الجمهور، ولا تنس أن البطاقات الصفراء ستفقد أهميتها مع نهاية المباراة، لأن الدوري سينتهي.
بدأت المباراة والحكام الأربعة يعيشون على أعصابهم، يدعون الله في سرهم أن تنتهي هذه المباراة على سلامة.. ومن الغريب أن رابطة المشجعين الخاصة بالفريق سين أقلعت عن إطلاق الأهازيج التي تتضمن سباباً على الحكم، أو ذكر اسم لاعب من الخصم عندما يرتكب خشونة مع عبارة (هيش هيش يا فلان).. واعتمدوا أهزوجتين لا ثالث لهما، الأولى، بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ، والثانية؛ حافظ، أسد، رمز الثورة العربية..
كان الحكام يتوقعون أن يلعب الفريق صاد بقوة ونشاط وتكتيك عالي المستوى، لأن حصولهم على البطولة أصبح في المتناول، إذ يكفيهم التعادل مع سين، وقد لعبوا بقوة فعلاً، وأما الفريق سين، فبدا في أسوأ حالاته، ويبدو أن لاعبيه يعرفون أن الحكام مضطرون لجعلهم يفوزون على كل حال، ومنذ الشوط الأول كثرت أخطاؤهم، وصاروا يلجأون إلى الخشونة، مما اضطر الحكم لرفع البطاقة الصفراء لثلاثة منه.. وبعد كل التحيز الذي أبداه الحكام الثلاثة بالتضامن مع الحكم الرابع، انتهى الشوط بنتيجة واحد صفر لـ صاد.
استمرت الدراما النفسية للحكام مستمرة حتى منتصف الشوط الثاني، حيث ألغى حكم الساحة، مستعيناً براية حكم التماس هدفاً ملعوباً لصاد، لأنه إذا صارت النتيجة (2- صفر) سيصبح تحقيق النصر لـ سين مستحيلاً. مهاجمو الفريق سين كانوا يركضون ويقعون على الأرض مثل (الكرارة)، وشوطاتهم تأتي بعيدة أو طائشة، ولكن إحدى كراتهم، من حسن الحظ، صدمت العارضة وسقطت بالقرب من خط المرمى السفلي، فاحتسبوه هدفاً، ولم يلتفت حكم الساحة لاحتجاجات لاعبي صاد، زاعماً أن الكرة تجاوزت الخط بكامل محيطها، وعندما أكثر كابتن صاد من الاحتجاج، أنذره بالصفراء، وطرد مدرب صاد من خط التماس.
ربع الساعة الأخيرة، باختصار، كانت محنة حقيقية. مدرب سين أنزل لاعباً بديلاً أشبه ما يكون بالبغل، بمجرد ما نزل بدأ يرفس اللاعبين على قصبات أرجلهم، ويبدو أنه كان يسب اللاعبين الخصوم همساً، مما رفع من الحالة العصبية في المباراة، وعندما أنذره الحكم اقترب منه وسبه بكلمات بالغة البذاءة. (تبين، فيما بعد، أن نزوله كان رسالة من الأستاذ للحكام معناها أن النصر الذي وعدتمونا به قد تأخر).
لن نطيل عليكم الشرح. استمر التعادل بهدف لهدف حتى الدقيقة قبل الأخيرة من وقت المباراة. وقتها أسقط أحد مهاجمي سين نفسه في منطقة الجزاء دون أن يحتك به أحد، ومع ذلك احتسب له حكم الساحة ضربة جزاء. حصل هياط ومياط واحتجاجات، وجمهور الفريق صاد أنشد الأهزوجة التي تسب أخت الحكم، ولكنه لم يتراجع.
أسوأ ما فعله مدرب سين أنه أمر بأن يقوم اللاعب الشبيه بالبغل بتنفيذ ضربة الجزاء. ركلها بقوة جعلتها تعلو العارضة بمترين. استنجد حكم الساحة بحكم التماس الذي رفع الراية وأشار إلى أن حارس مرمى صاد تحرك مخالفاً قانون اللعبة. أمر الحكم بإعادة الضربة. أخطأ البغل بتنفيذها مرة ثانية. أعادها الحكم. سددها، أودعها المرمى..
قام الملعب ولم يقعد من الفرح والتصفيق والتصفير والتعييش.
لاعبو الفريق سين ركضوا ليعانقوا زميلهم البغل الذي سجل هدف الانتصار، ولكنهم لم يتمكنوا من معانقته، لأن الحكام الأربعة سبقوهم إلى ذلك.