"جنتلمان المكتبات" وعطور الخيال
(1)
أعترف بأنّني عندما أقرأ، لست من الذين يأخذون الكتاب بقوة. لا قلم في يدي ولا أوراق حولي. ومع أنني أستعمل هاتفي في الكتابة، فإنني أتركه جانباً. قليلاً ما أعيد قراءة الفقرات أو الصفحات، ونادراً ما أتوقف عند فقرة معينة.
لا أحتفظ بشواهد حرفية (وهي علّة ملازمة لي منذ سنوات الدراسة في الثانوي، فعند تحرير مواضيع الإنشاء غالباً ما كنت أنهيها ببيت أنسجه من وحي اللحظة. ويبدو أنّ الأمر كان محبّباً لأستاذ اللغة العربية. ولذا كثيراً ما كان يُسند لي أعداداً أكبر مما يُسنده لتلامذة الآداب، وهو ما أثار غيرة بعضهم. هل تتذكر ذلك يا علي؟)، ولا أسعى إلى فهم عقلي بَحْتٍ لما كُتب. أقرأ وأنا أنتظر مع كلّ حرف هزّة ما، جذبة قوية في هذه الكلمة، ارتعاشة في هذا المشهد، سكوناً في هذه الصفحة، صوتاً ما في هذه الفقرة... أنصت بانتباه إلى ما يحرّك ذهني، إلى ما يمكن أن تفعله الحصى/الكلمات من دوائر في ماء راكد.
الارتعاشات القلقة، الجذبات القوية كما تفعل ريح عاصفة، الجذبات الخفيفة بحنو، الأصوات، الصمت هنا وهناك، المشاهد، ألوان اللوحات... هي حصيلة قراءتي لأيّ كتاب. هي متفرّقات ولكنها متصلة أيضاً، كافية لنسج بيت عنكبوت، لتركيب بازل ذي معنى، ونحت إمضاء الكتّاب على روحي وجسدي.
(2)
ليس هيناً تركيب كلّ ذلك، لذا عليك بالخيال. والخيال، هو الكلمة السحرية في كتاب "جنتلمان المكتبات"، وهو عبارة عن حوارات مع الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، صادر عن دار صفحة 7. وهذا الخيال تحدّث عنه كتّاب كثيرون من قبل، أحدهم ابن العم، أبو القاسم الشابي في مقاله الخالد عن "الخيال الشعري عند العرب". وفي الرواية، ثمّة من وضع الخيال بالبنط العريض (بيت الخيال، بيت الرواية...) كالروائي التونسي، كمال الرياحي أحد أبطال الكتاب، ففي مقدمته اللذيذة، يبدو رساماً محترفاً لبورتريهات صديقه ألبرتو مانغويل، الكائن المتعدّد، ذي الطبيعة الكوزموبوليتية، إنه مدينة بمعنى ما، مركزها القراءة والكتاب والمكتبة والخيال. قد يصيبك هوس الخيال أيضاً، وإن كان في درجته الصفر، حدَّ أن تتخيّل مدينة كاملة: أحياء، أنهج وشوارع، فِلَل ومنازل فاتنة هنا وهناك، مساكن شعبية بطُرز متشابهة، منازل قيد البناء... هذا حي الشيخ سعدي، أنهج وشوارع، يبدأ من مقهى القرصان (كنية الشيخ) وينتهي عند ملتقى الأنهار الثلاثة (من آخر إصداراته)، مروراً بترجمات معمارية جميلة من اليونان وأميركا وغيرها لمعماريين كبار، على غرار كافافي، والت وايتمان، وغيرهم.
هذا حي عبد الرحمن منيف، يبدو أنه أكبر الأحياء في المدينة، يتوّسطه، على غرار المدينة العربية القديمة، مبنى المسجد الجامع "شرق المتوسط".
أنصت بانتباه إلى ما يحرّك ذهني، إلى ما يمكن أن تفعله الحصى/الكلمات من دوائر في ماء راكد
من بعيد يظهر حي الكرمل، يبدو أنّ غالب سكانه من وجهاء المدينة، مؤسّسه من الوجهاء أيضاً، وله فيه فلل متعدّدة، هي مزارات أثيرة للكثيرين.
هي مدينة أو قل مجموعة جزر، موزّعة بين ركن المطبخ الخارجي، وركن في غرفة الابن الأصغر، وركن آخر في خزانة ملابس الابن البكر، عدا عن مجموعة من القفاف الورقية لآخر المشتريات من الكتب والمجلات في قاعة الجلوس.
أضيف إليها كتب في محفظة الكمبيوتر وأخرى في السيارة، سيارتي، رفقاء المسافة اليومية بين المنزل والعمل (المكتبة هي انعكاس لتفكيرك، إنها صورة ذاتية، كما يقول الزعيم مانغويل في الكتاب). يضعك الكتاب على مثل هذه التخوم من الخيال، وإن كانت تخوماً محرّفة، أو قل هي النسخة الواحدة بعد الألف منها.
(3)
كتاب "جنتلمان المكتبات"، كتاب أبطال حقيقيين ومتخيلين، الكتب، الكُتَّاب، القرّاء، المكتبات، الشخصيات الروائية. إنه أيضاً (أو هكذا يبدو لي على الأقل) كتاب رحلة في النسخ المتعدّدة لألبرتو مانغويل، مانغويل الحقيقي ابن الواقع. الكاتب، مدير المكتبة الوطنية في الأرجنتين، المحاضر في عدد من الجامعات، المسافر من بلد إلى آخر، صاحب الرأي في قضايا الأدب والفكر والسياسة، في الحاضر والمستقبل.
"مانغويل" المروّج الأكبر للقراءة، القراءة بنظرة أخرى، نظرة غير ديكارتية، "القارئ الحقيقي قارئ فوضوي بطبيعته"، كائن حر، لا يستمع إلا إلى نداءاته الداخلية، وإن كان هو أحد عبيدها الكبار. (يا له من مشهد، سبتمبر 2001، الابنة تبكي عبر الهاتف من نيويورك، فيما كان مانغويل يجادل السيد شاتوبريان، الروائي الفرنسي، دون انقطاع، عبر "مذكرات من وراء القبر" عن عدم انضمامه إلى الثورة الفرنسية. مانغويل يلوم وشاتوبريان يردّ بحزم العارف: " أبداً. لا أعلم شيئاً أكثر استبداداً، وأكثر احتقاراً وجبناً وأكثر محدودية من إرهابي". التاريخ يعيد نفسه في مكان آخر). مانغويل القائل إنّ "البلد الحقيقي للقارئ هو بلد الكاتب الذي يقرأه". إنّ ولعه بالقراءة يجعله ديمقراطياً بالضرورة، ولذا سيقبل قولي بأنّ البلد الحقيقي هو أيضاً بلد ثالث، بلد وليد من كيمياء الكتابة والتلّقي.
ونسخ "مانغويل" الموزعة بين الشخصيات الأدبية والروائية، بعضها في كتبه وبعضها في كتب الآخرين، تتجوّل كوحوش (كتابه "الوحوش الرائعة") أليفة وفاتنة لقرائها، كيف لا؟ وهو يحدّثك عن دانتي، مارجريت اتوود، سيرفانتس، دينو بوزاتي، أندري جيد، بورخيس، جزيرة الكنز، كيبلينغ وبطلاه الطفلين كيم وماوكلي، وغيرهم كشريك مؤسّس لكتب الكتّاب، وبطل من أبطال رواياتهم، هذا ما فعلته القراءة فيه باعتبارها طريقة حياة، حيث يقول "أن تكون كاتباً هو إنجاز مهمة، وأن تكون قارئاً فهي طريقة حياة".
الكتاب يشبه حديقة مملؤة بالورود، لك أن تتجوّل بينها بسهولة وانسيابية عالية، طرق اللغة هنا معبّدة بإتقان، من حوار إلى حوار، ومن سؤال إلى آخر، من صفحة إلى صفحة، من إشكالية إلى أخرى، تذكرني باللذيذ من الترجمات التي قرأتها بترجمة سعدي يوسف، أسامة منزجلي، تحسين الخطيب، عبد الوهاب الملوّح، آدم فتحي، حكمت الحاج، رشيد وحتي وغيرهم... حديقة تتشمّم منها أولاً وأخيراً روائح الكتب والمكتبات، عطور القراءة والخيال.