جمال خاشقجي.. بلاد ليست لنا

09 أكتوبر 2018
+ الخط -
كل تفاصيل القضية مرعبة. منذ اللحظة الأولى، لحظة إعلان الاختفاء داخل القنصلية، ثم الغموض الذي تلا تلك اللحظة: هل خرج من القنصلية؟ لم تم إخفاؤه أساساً وهو ليس من المعارضين السعوديين الراديكاليين؟ ألم يكتب قبل يومين فقط: "وطني وأهلي" بلهجة حزينة أقرب إلى التوسّل.
اختفى. هكذا بهذه البساطة، تبخّر جمال خاشقجي. ثمّ جاءت اللحظة التالية الأكثر ثقلاً. جاءت بسرعة بينما كان الجميع يطرح علامات استفهام حول موعد الإعلان عن اعتقاله ونقله إلى الرياض: قد يكون جمال خاشقجي جثّة داخل القنصلية. اللحظة السوداء لم تكن كافية، جاءت تتمة القصة لتطبق على أعنقانا: قد تكون جثته تشوّهت وتمّ إخراجها من القنصلية بشاحنة سوداء.
لا حياة لهؤلاء الخارجين من عباءات الأنظمة العربية. ولا حياة للمنتفضين من الأصل على هذه الأنظمة. عاش جمال خاشقجي سنوات طويلة، مقرباً من النظام السعودي. مستشاراً وكاتباً وصحافياً ومحاضراً. لحظة الخروج من البلاد ومن طيف الحكم السعودي الحالي بدت سلسلة، بينما كانت حفلة جنون الاعتقلات المختلطة بكثير من الشعارات اللامعة عن الحريات، ومحاربة الفساد وتمكين المرأة، تتوزّع يميناً ويساراً وتلمع بضوئها الجذاب على صفحات وشاشات الإعلام الغربي، المبهور "بالأمير الشاب الشجاع".
لا حياة لهؤلاء الخارجين من عباءات الأنظمة العربية. هل قتله النظام السعودي؟ نردّد بشكل آلي: لم يقتل، لم يقتل. نخاف على أنفسنا. نخاف على أيام مقبلة تبدو كل يوم أكثر كآبة. نشاهد رفاقا لنا، يغادرون هذه المنطقة، إلى مناطق آخرى، تحتضنهم وتحتضن عائلاتهم وأطفالهم وأقلامهم.  
كتب الكثير عن جمال خاشقجي. من عرفه عن قرب أو عن بعد، وهؤلاء الذين لم يعرفوه. يقولون إنه كان رجلاً لطيفاً، وخفيف الظل. لكن كل ذلك غير مهم. الأرجح أن خفة الظلّ لا تشفع للضحايا عند مواجهة الجلاد. الرجل قد يكون الآن جثثاً مختلفة في حقائب سوداء فاخرة على الأرجح. وقد يكون على قيد الحياة. من يعرف؟ وحدهم المجرمون يعرفون. أما نحن فنتكهّن ونتكئ على تقارير سريعة، تتسارع وتتناقض، وتزداد غموضاً كل مرة. 
قبل 10 أيام، كان صحافيون أميركيون يناقشون على موقع "تويتر" فكرة "موت الصحافة". الصحافة بشكلها التقليدي. تموت الصحافة هناك... ويموت الصحافيون هنا. جمال خاشقجي جزء صغير من صورة كبيرة أكثر رعباً. فالعالم العربي مقبرة واسعة. مقبرة تتسّع كل يوم لتحتضن المزيد من الجثث: صحافيون، فنانون، ملكات جمال، ومدنيون. الملايين من هؤلاء، ترميهم الأنظمة والتنظيمات الإرهابية وتلك الأقل إرهاباً، داخل الحفرة، وتنثر التراب فوق جثثهم. ستبتلعنا الحفرة جميعاً، وسينثرون التراب فوق أجسادنا: لا حياء في القتل. رجالا ونساءً وأطفالا، ستلتصق أجسادنا ببعضها. ونذوب في الأرض التي منها أتينا.
هذه ليست بلادنا. العالم العربي للأنظمة والمطبلين لها. انتفضنا في العام 2011. غادر القتلة وعادوا أشدّ شراسة. هذه مصر ماثلة أمامنا. تتكدّس السجون بنساء ورجال وأطفال، ويعلو التصفيق لعبد الفتاح السيسي وتصريحاته الرومنسية. هذه سورية. بشار الأسد يبحث اليوم إعادة الإعمار، فوق المقابر الجماعية، بينما يبحث العالم "مستقبل سورية بعد الحرب". يسمونها حرباً حفلة الإبادة المستمرة منذ 7 سنوات. هذه اليمن وأطفالها، وهذا العراق ومأساته التي لا تنتهي. وهذا لبنان الذي ينهار على وقع حرب أهلية تأتي ولا تأتي.
هل قتل جمال خاشقجي؟ نأمل ألا يكون ذلك حقيقياً. لكن الأنظمة العربية تقتل مواطنيها. القتل هو سمة هذه البلاد. وبلاد القتل ليست لنا.
0E29123B-74A8-4275-B27D-5F245E11C507
ليال حداد
صحافية لبنانية؛ رئيسة قسم المنوعات والميديا في "العربي الجديد".