تونس ليست بخير.. عن أي حوار نتحدث؟
كثرت الدعوات إلى الحوار بين التونسيين في ظلّ أزمتهم السياسية الخانقة، والتي أدّت إلى مأساة اقتصادية واجتماعية، تطحن المواطن بين رحاها. وهنا يتساءل الكثيرون في تونس وغيرها، اليوم: هل تنجح دعوات كهذه، في الوقت الحالي؟
في الحقيقة، إنّ الحوار لم يكن في أيّ يوم من الأيام، حلاً تونسياً، ولن يكون، بمثل طبقة سياسية كهذه. فمنذ الاستقلال إلى الآن والحكم في تونس لا يُبنى على الحوار، وإنّما على المغالبة. فالرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، انتزع الحكم من الباي، وتخلّص من خصومه السياسيين والنقابيين، ولم يسمح للإسلاميين بممارسة السياسة العلنية، إلا لفترة قصيرة بهدف حماية نفسه من تغوّل اليسار، ولم يحاور أيّ طرف في كلّ أزمات تونس، في عهده. وسلفه، الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، انقلب عليه، وحكم بمفرده لمدة 23 عاماً، لم يحاور فيها إلا أنسابه، وجعل أغلبية القوى تدور في فلكه. ثم فاجأت الثورة الجميع، فتوّهموا، لبرهة، أنهم صنعوا ربيعهم وديمقراطية حقيقية بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني الحوار والتشارك والاحتكام إلى القانون، إلا أنّ تأويل الرئيس، قيس سعيد، للفصل الـ 80 من الدستور صفع كلّ الحالمين، وأعاد إلى الواجهة نظرية الفكر السياسي الحاكم في تونس إلى عادته: واحد يحكم، وعلى الكل أن يتبع، إلى أن تتماهى الدولة مع الحاكم، كما يجري تطويعها الآن. لا يجب أن ننسى، أنه في كلّ تاريخ تونس، كانت المغالبة هي أساس الحكم، ومقود القيادة بيدي من يمسك الحكم بيديه، لا بصندوق الاقتراع والقانون.
أمّا ما سمّي بالحوار الوطني الذي أجري في 2013 و2014، فلم يكن في جوهره حواراً موضوعياً، بل ضرباً من ضروب المغالبة ضد الإسلاميين في الحكم. حكم الإسلاميون مباشرة بعد الثورة، وبعد انتخابات نزيهة، شهد لها العالم كله، لمدة تناهز ثلاثة أعوام، فشهدت فترة حكمهم كلّ أنواع العراقيل، من تعطيل وسائل الإنتاج عبر الإضرابات الكثيرة، إلى اغتيالات سياسية ثقيلة ومؤثرة، شملت الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ناهيك عن جملة عمليات إرهابية أخرى، ساحقة ومتعدّدة. كلّ ذلك كان يهدف إلى الإطاحة بمن هم في الحكم، وكان إخراج الإطاحة هذا تحت مسمّى الحوار الوطني، وأشرف عليه الذين قادوا الانقلاب على الفصيل الحاكم الضعيف، وعلى رأسهم اتحاد الشغل، الذي تسبّب في انهيار الاقتصاد الوطني، وتسبّب في شلّله، حتى يُزاح الإسلاميون عن الحكم.
دعوة اتحاد الشغل إلى الحوار ليست إلا محاولة لقطع الطريق على الإقصاء الذي يمارسه الرئيس قيس سعيّد ضده
إنّ خاصية الحكم في تونس، أنه كلما ظهر الغالب في البلاد أطاعته كلّ القوى، صلبة كانت أم لينة. القوى الصلبة كانت تابعة دائماً للحاكم، مؤتمرة بأوامره، دون حتى موقف الحياد فيما يخصّ العلاقة ما بين الشعب والحاكم. أما القوى اللينة، ونذكر منها بالذات اتحاد الشغل، باعتبار أنّه القوة المدنية الأهم داخل مؤسسات الدولة، فكان يكفيه قبول الغالب به، وتمكين قياداته المركزية والجهوية بجملة من الامتيازات، وتمثيله على الأقل بممثل وحيد داخل كلّ حكومة، بوزير في موقع وزارة الشؤون الاجتماعية، مع ضمان عدم ذكر ذلك في العلن. وهو ما يحدث دائماً في العلاقة ما بين اتحاد الشغل والسلطة الغالبة.
أما دعوة اتحاد الشغل الآن، إلى حوار وطني، فليست إلا محاولة للضغط على القوة الغالبة، القائمة حالياً، لتمكينه من مكان في موقع السلطة، فاتحاد الشغل لم يكن يوماً ضد مسار تأويل الفصل الـ 80، القائم منذ 25 يوليو/ تموز، بل إنه طرف مهم ساهم في خلق المناخات الملائمة لهذا المسار. إلا أنّ الرئيس قيس سعيّد رفض تمكينه (اتحاد الشغل) من جملة من الامتيازات، بل عمل على إضعافه ونزع بعض مكتسباته، وعلى ذلك، فإنّ دعوة الاتحاد إلى الحوار ليست إلا محاولة لقطع الطريق على الإقصاء الذي يمارسه الرئيس قيس سعيّد ضده. وستكون إجابة الرئيس، عن طلب الاتحاد، النقطة الفاصلة في مستقبل تونس، حيث لو استجاب الرئيس للاتحاد فسيستتب الأمر للرئيس، نظراً لضعف المعارضة، برغم توافقها في ضبابية وضع تونس. ولو رفض الرئيس التعامل مع الاتحاد فستطول أزمة تونس إلى أن يظهر غالب آخر ويحسم الأمر. والتوّقع الأخير هو الأرجح، من خلال قراءة بسيطة لتصريحات وخطابات الرئيس الهجومية، التي ترفض الانصياع إلى تهديدات الاتحاد، كما فعل في 2013 و2014.
لن تنجح كلّ الدعوات إلى الحوار في تونس، فالنجاح يحتاج إلى ديمقراطيين يحتكمون إلى القانون، وليس إلى ما بين أيديهم من قوة، وإلى وضوح فكرة التشارك وأحكام صندوق الاقتراع، وهو ما لا يتوّفر حتى الآن لدى أغلبية الطبقات السياسية والنقابية والإعلامية والأكاديمية. إذن ستدور ماكينة الغالب، كما كانت العادة، وتونس ليست بخير.