تونس... تهاوي أعمدة الدخان
عاش التونسيون منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021 على وقع الوُعود المتتالية التي بشّر بها الرئيس قيس سعيد في كلّ خطاباته، والتي ترقى إلى أن تكون معجزات وسط وضع مأزقي يجمع غالبية المتابعين والفاعلين منذ الثورة على عدم توفر الحد الأدنى للشروط والمقومات الضامنة لتحقيق ولو عُشُر هذه الوعود.
لقد أقام سعيد شرعيته على مخالفة جذرية لمنظومة عشرية الثورة، وتنصّل من مسؤوليته عن مشهد مأزوم، كان هو أحد صانعيه والمشتغلين على تقويض شروط الخروج منه ليؤول إليه القرار، ويقدّم نفسه كمخلص للإنسانية جمعاء، مخلص جاء ليقيم العدل والرفاه، متخذاً من مآسي الشعب ومعاناته ويأسه من الطبقة الحاكمة لتكون الجبهة المفوّضة للاستحواذ على جميع السلط، ولانقلابه على دستور 2014، بل على جميع التعاقدات السياسية والمجتمعية.
إنّ المتابع للوضعية الاقتصادية في تونس يدرك تماماً مدى تعقيدها وصعوبة الخروج منها، ما يجعلنا إزاء حل وحيد لا تختلف حوله غالبية القوى المعارضة، باستثناء الخط الدستوري النوفمبري المعادي للجميع، وهو تنقية المناخات السياسية من أجل بناء جبهة داخلية قوية قادرة على ضمان الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي والمؤسساتي وتحمّل المسؤولية في إدارة مشكلات البلاد المتعلقة بالتنمية والوضع الاقتصادي المتردي. لم يكن لهذا أثر في خطاب الرئيس قيس سعيد ولا في خطواته منذ السّاعات الأولى للانقلاب، فكلّ المؤشرات كانت تتضافر يوما بعد يوم لتؤكد أننا نتّجه نحو طريق مسدود ونوغل فيه بلا رؤية ولا تصوّرات، حيث كان الخطاب الشعبوي سيد الموقف بما يحمله من عناوين تفرقة بين المواطنين ووصم وشتم للمعارضين، بالإضافة لمعارك دونكيشوتية من أمثال مقاومة الاحتكار وتتبع الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة.
التاريخ لا يقدم الهدايا ولا يأتي بالمعجزات، وإن الحلول تتحقق بتحقّق شروطها وتنتفي بانتفائها
كل هذه العناوين كانت عماد خطابات رئيس الجمهورية وأسُسه، حيث لاقت تقبّلاً من بعض الطبقات الاجتماعية في تونس، والذين اعتبروها مؤشرات للخلاص ولتحسين وضعيتهم المعيشية. لم يكن الناس ينتظرون من سعيد سوى أن يروا أثر إنجازاته في قوتهم وقوت أبنائهم. ولكن اليوم وبعد سنة ونصف من الانقلاب، تعقدت الوضعية الاقتصادية في البلاد، وتجلّى هذا التعقيد بشكل مباشر في الارتفاع الكبير للأسعار وارتفاع نسبة التضخم لتبلغ 9.1%، ما نتج عنه تردّي المقدرة الشرائية، ناهيك عن فقدان المواد الأساسية (الدقيق، السكر، الزيت النباتي، القهوة...)، وأزمة المحروقات التي دفعت بالناس للوقوف في طوابير لساعات أمام محطات الوقود.
أمام كلّ هذه المشاكل المركبة والمتداخلة تتوّجه تونس نحو صندوق النقد الدولي للحصول على الدين، غير أنّ هذه المرّة مختلفة عن سابقاتها على مستويين: المستوى الأول يتمثل في ضعف الجبهة الداخلية وغياب الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي، وهو ما يجعلنا في موقف ضعيف أمام المانحين الدوليين. أما المستوى الثاني، فيتعلق بشروط صندوق النقد الدولي بخصوص رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات وتجميد كتلة الأجور والتفريط في المؤسسات العمومية. بناء على ما سبق، يمكن أن نلاحظ أنّ الدولة التونسية ممثلة في حكومة السيدة نجلاء بودن، تدخل هذه المفاوضات مجرّدة من كلّ شروط القوة، وخيارها الوحيد هو الموافقة على هذه الشروط مرغمة، وهو بالفعل ما أعلن عنه صندوق النقد الدولي منذ أيام بأنه توصل إلى اتفاق مع تونس لمنحها تمويلاً بقيمة 1.9 مليار دولار على مدى 48 شهرا، ولم يتبق على الاتفاق النهائي سوى موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وذلك نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول من هذه السنة.
وبعد مضي ما يزيد عن نصف شهر من عقد هذا الاتفاق المبدئي، وما سيستتبعه من إجراءات وخطوات موجعة ستلقي بظلالها على معيشة المواطنين بشكل مباشر، لم يكلف رئيس الجمهورية نفسه ولا حكومته التي عينها واختارها، عناء مصارحة الشعب بحقيقة الوضعية الاقتصادية ومدى صعوبتها، بل استمرّ في توجيه التهم لخصوم مفترضين ومتآمرين في الغرف المظلمة لم يحدّدهم، واكتفى بتحميلهم مسؤولية تردّي الأوضاع وصعوبتها دون كشف أسمائهم أو هوياتهم. للمتابع أن يلاحظ أنّ الخطاب الرسمي في تونس تحوّل إلى لغة خشبية يشوبها الغموض والتعويم، وهو ما جعله يفقد مصداقيته شيئاً فشيئاً لدى عموم الناس، فرصيد الثقة الذي تمتع به رئيس الدولة طيلة أشهر بدأ يتآكل نتيجة هذه الضبابية التي تبلغ أحيانا حدّ التناقض في التصريحات.
الاستبداد شرٌّ محض ولا يتوفر على شرط واحد من شروط النهوض ولا يمكن أن يكون خطوة في الطريق نحو الديمقراطية
لقد مثلت الأشهر الفارطة نموذجاً واضحاً وجلياً لنتائج التفرد بالحكم والاستئثار بالسلطة، فغياب الرؤية والكفاءة عمن يتحمّلون المسؤولية في إدارة البلاد واستبعاد كلّ إمكانيات الإصلاح والتعديل والرقابة جعلت المؤسسات الرسمية للدولة في وضعية هشاشة تهدّد قدرتها على الاستمرار في أداء واجباتها والإيفاء بالتزاماتها، ناهيك عن اتساع دائرة الانقسام السياسي الحاد الذي رسخه انقلاب 25 يوليو/ تموز، وذلك بوأد كلّ إمكانات السياسة، بما هي تدبير مشترك وجماعي للشأن العام وتذويب للاختلافات وتعزيز للمشتركات.
إنّ هذه الوضعية غير المسبوقة في تاريخ تونس الحديث تدفعنا نحو خلاصات حقيقية مفادها أنّ التاريخ لا يقدم الهدايا ولا يأتي بالمعجزات، وإن الحلول تتحقق بتحقّق شروطها وتنتفي بانتفائها، فلا حديث عن إصلاحات اقتصادية وتنموية بدون استقرار سياسي شرطه الأساسي هو الوحدة الوطنية على أساس الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. كما أنّ كل حديث عن السيادة الوطنية يفترض ضمنا أن لا يكون عنوان مزايدة وتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، بل هو اشتغال مستمر على توفير شروط السيادة بما تعنيه من دولة بمؤسسات قوية ومستقرة قادرة على وضع برامج واستراتيجيات تؤسس لاقتصاد قوي منتج وتطوّر علمي وتقني يحقق أمننا القومي ويحفظ كرامتنا.
ختاما، لقد صدّر هذا الانقلاب الوهم لجمهور واسع من الناس مستثمراً في طيبتهم وحسن نواياهم وكشف عن سوءة نخب مارست السياسة لعقود ولم تجُز يوم الامتحان، فأكدت قصور وعيها وفهمها لدورها المنوط بعهدتها تجاه نفسها أولا، وتجاه التاريخ ثانيا، فآثرت رجعية الاستبداد على حداثة الديمقراطية، ولم تتمعن في التاريخ جيدا لتدرك أنّ الاستبداد شرٌّ محض ولا يتوفر على شرط واحد من شروط النهوض ولا يمكن أن يكون خطوة في الطريق نحو الديمقراطية، إذ إنّ فكرة "المستبد العادل" تناقض نفسها، فالعدل يقوّض الاستبداد، وفي المقابل لا يثمر في مناخات التسلط، لا عدل ولا حرية. إنّ الديمقراطية كأداة حكم وتنظيم للفعل السياسي هي مدخلنا نحو حداثة سياسية تحفظ كرامة الناس وتحسن معيشتهم وتقيم فيهم العدل، وإن هذا لعمري مخاض مستمر يتخلّق من الوعي ويندفع بالمسؤولية ويعلو بالفكر ويسمو بالنضال.