تونس: النظام الديمقراطي على المحك
قبل أسبوع من الآن، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، وتولّيه السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس وزراء جديد يقوم بتعيينه.. انقسم الشارع التونسي والعربي على أثر هذه الإجراءات الممهّدة إلى عودة الديكتاتورية وحكم الفرد، بين مؤيّد يرى في سعيّد "الزعيم" المنقذ من النخبة السياسية الفاسدة، ومعارض متشبّت بالحياة النيابية والعملية الديمقراطية.
تُهدّد قرارات الرئيس سعيّد التجربة الديمقراطية في تونس، وتخدم محور الثورة المضادة المتمثّل في الإمارات وحلفائها، وفلول النظام القديم، كما تُسِرُّ بعض التيّارات السياسية التي تدّعي الديمقراطية بدون الإقرار بقواعدها ومرتكزاتها. تسعى هذه التيّارات التي تنهل في مُعظمها من معين خطاب أيديولوجي مؤسس على قاعدة "نحن وهم"، إلى محاربة أيّ وجود للإسلاميين داخل منظومة الحكم أو حتى خارجه، بكلّ الوسائل المُتوفّرة، ولو كانت غير قانونية ولا أخلاقية. وكما دعمت الانقلاب العسكري في مصر في عام 2013، فهي تساند الآن قيس سعيّد في انقلابه على الدستور والمؤسسات بغرض تنحية حركة النهضة من المشهد السياسي.
إنّ النقد الموجّه لبعض القوى السياسية المؤيّدة لحركة قيس سعيّد لا يعني التغاضي عن الأخطاء التي تسببت بها الطبقة السياسية المُمثّلة في البرلمان، وفي مقدّمتها حركة النهضة، التي تحالفت مع أحزاب فاسدة محسوبة على النظام القديم (نداء تونس وتحيا تونس وقلب تونس)، أو ائتلاف الكرامة الذي أسّس لتيّار شعبوي يمزج أحيانًا بين الدين والسياسية، ناهيك عن بهلوانية وبؤس عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحرّ الذي يدعو إلى استرجاع "أمجاد" تونس ما قبل 2011، وهي التي سعت إلى جعل البلطجة أسلوبًا للتعبير عن آرائها داخل قبة البرلمان.
قد لا يتمكّن الرئيس سعيّد من مواصلة سنّ وتنفيذ قراراته الانقلابية، لكنّ ذلك يتوقف على تفاعل المؤسستين العسكرية والأمنية مع تحرّكاته المقبلة
لقد أصبح البرلمان بمثابة حلبة للصراع غير المنتج، يتبادل في ظلّها بعض النوّاب السباب والاتهامات التي قد يكون لها طابع أخلاقي، ما أدّى إلى نفور الجمهور من هذه المؤسسة، ومن السياسة بشكل عام. لكن في المقابل حاول الرئيس سعيّد تهميش البرلمان، وسعى إلى الهيمنة على بعض اختصاصاته وتعطيل بعض أدواره، إذ لم يقم مثلًا بالتشاور مع الكتل النيابية خلال عملية تكليف رئيس الحكومة. وهو الذي عرقل تشكيل البرلمان للمحكمة الدستورية في نيسان/ إبريل الماضي، التي لو كانت قائمة الآن لَبتّت في انتهاكاته المتعددة للدستور.
إنّ معالجة هذا الوضع لا تتمّ عبر انتهاك الدستور -المليء بالأقفال وفق تعبير سعيّد- وتجميد عمل المؤسسات والزج بالمؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية بعدما ساهم حيادها في نجاح عملية الانتقال الديمقراطي واقتحام مقرّات بعض القنوات الفضائية واعتقال بعض نواب مجلس الشعب ونشطاء المجتمع المدني المنتقدين للرئيس سعيّد الذي يُروّج لخطاب شعبوي- ديماغوجي وعاطفي أحيانًا قائم على التحذير من "المؤامرات" الذي يزعم أنّها تحاك ضده (قضية محاولة التسميم على سبيل المثال)، ومفعم بشعارات محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين.
من الواضح أنّ الرئيس قيس سعيّد يرفض من الأساس الديمقراطية الليبرالية، إذ لطالما عبّر عن امتعاضه من النظام التمثيلي القائم، مقترحًا حلول نظام "اللجان الشعبية" محلّه، دون إقامة أيّ اعتبار لدور الأحزاب السياسية في تسيير وإدارة شؤون البلاد (يُمكن العودة بهذا الخصوص إلى خرجاته الإعلامية خلال الحملة الانتخابية لعام 2019).
قد لا يتمكّن الرئيس سعيّد من مواصلة سنّ وتنفيذ قراراته الانقلابية، لكنّ ذلك يتوقف على تفاعل المؤسستين العسكرية والأمنية مع تحرّكاته المقبلة، ومدى تماسك ووحدة النخب السياسية والمدنية لحماية الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي، وإرجاء كلّ الخلافات والاختلافات إلى ما بعد استعادة المؤسسات الديمقراطية، وخصوصًا أنّ الشعب التونسي قد تعوّد على العيش في كنف الحريّة، ولن يرضى بالاستبداد.