تقنيات الهرب من الدوام الرسمي
حكيت لأبو صالح، في الاتصال السابق، عن مثول بطل حكايتنا محمد مراد العبدو، الملقب "أبو عناد جلد الضفدع اللميع"، أمام مدير مالية إدلب، بعد نجاحه في مسابقة التوظيف سنة 1973، ليعرف منه بأي قسم ينبغي عليه أن يلتحق.
قلت: إن أكثر ما أدخل السرور والحبور إلى نفس المدير، الأستاذ أيمن، أن أبو عناد أصر على مناداته بلقب (بيك)، واستطاع أن يقنعه، بطريقته التهكمية النادرة، بأن هذا اللقب، الذي كان يُطلق على السياسيين الكبار، أمثال رشدي الكيخيا، وفخري البارودي، وسعد الله الجابري، أحسن بألف مرة من لقب "رفيق" الذي أطلقه البعثيون على كل منتسب لحزبهم، كائناً من كان، حتى ولو كان الفتى الأهبل أبو شعلان.
قال أبو صالح: والأحلى من ذلك أن المدير أيمن "بيك" قرر تعيين أبو عناد في "دائرة قمع المخالفات"!
- نعم. وأبو عناد عندما سمع بكلمة "قمع" رفع يده محتجاً، وقال للمدير، أرجوك يا بيك، فكر، وعد للعشرة، قبل أن تحولني إلى إنسان يمارس فعل القمع، فأنا، والله، لم يبق أحد في الدنيا لم يقمعني..
وحكى له كيف كانت خالته، زوجة أبيه، تقمعه بطريقة متحضرة، إذ تطلب من والده أن يكسب الوقت، ويضربه ريثما تحضّر له الغداء! وفي المدرسة كان المعلم يضربه عشرين عصا، لأنه لا يجيد لفظ الأحرف اللثوية، فيقرأ في درس التعبير (إن قراءة التُرَاس العربي تفيد الأجيال السائرة..). وحينما اعتقلوه، في أيام الوحدة التي (ما يغلبهاش غلاب)، سنة 1959، وبمقارنة بسيطة، اكتشف أن ضرب أبيه له في فترة تحضير الطعام، كان يشبه لعب العيال، وينطبق عليه المثل القائل "ضرب الحبيب زبيب". وفجأة قال للمدير:
- الله يرحم والدي، يا أيمن بيك، كان رجلاً شديد الذكاء، بدليل أنه كان يغش زوجته بطريقة عبقرية. هي كانت تسأله من المطبخ:
- شو يا عناد؟ ضربت محمد مراد منيح؟
خلال أشهر قليلة، أصبح أبو عناد مثل كل الموظفين في البلاد السورية، موظفاً بيروقراطياً، يعتمد في الوظيفة على مبدأ "تغييب الشموس وقبض الفلوس"
فيقول لها: ولو يا حبيبتي. هل يعقل أن أتهاون في تنفيذ أمر صادر عنك؟ تقبشيني، كرمى لك سأظل أضربه حتى أنشّح جلده.
والحقيقة، يا بيك، أن ذكاء أبي لم يكن يقتصر على هذه، بل كان يذهب إلى سفرة الطعام متظاهراً باللهاث، ليبعث لها برسالة مفادها أنه تعب وأنهك من فرط ما ضربني! ولكن لهاث المساعد أول "أبو قدوم" الذي كان مكلفاً بالتحقيق معي في السجن، أيام الوحدة، لم يكن مصطنعاً، المسكين، من كثرة ما يضربني كان عرقه يسيل مثل الكديش المكدون على الصَمَد، ويضطر لأن يمسحه بكمه، وهو يقول لي:
- ما بدك تعترف أنك شيوعي يا ابن القحبة؟
وأنا، عندما رأيته بهذه الوضعية، يا بيك، أشفقت عليه، واعترفت له، ولكنني لم أعترف على عماها، وضعت عليه شرطاً..
- ما هو؟
- قلت له يا معلم، أبو قدوم، أنا أعترف لك أني شيوعي، بشرط أن يكون الاعتراف هكذا، شفهياً، فإذا كتبتُ لك إنني شيوعي، أنت ستحيل ضبط الاعتراف إلى معلمكم رئيس الفرع، وهو سيستدعيني ويسألني: ما هي الشيوعية ولاك شرموط؟ وأنا والله لا أعرف. لاحظت لك، يا أيمن بيك، أن أبو قدوم انزعج من هذا الشرط، فقلت له: واضح يا معلم أبو قدوم أنك مثقف وتعرف ما هي الشيوعية، طيب، اشرح لي أنت معناها، حتى إذا سألني رئيس الفرع أعرف كيف أجيبه. أأنت تراها حلوة بحقي أن أقر بأنني شيوعي وأنا لا أعرف ما هي الشيوعية؟ قسماً بالله، إذا تسرب هذا الحكي إلى الشارع فإن أهل إدلب يجعلونني مسخرة.
وانتهت المقابلة، يومئذ، بأن طلب المدير من أبو عناد أن يأتي في اليوم التالي ويستلم قرار تعيينه في مكتب قمع المخالفات.
- ما أروع أبو عناد يا أستاذ. وماذا حصل بعد ذلك؟
- خلال أشهر قليلة، أصبح أبو عناد مثل كل الموظفين في البلاد السورية، موظفاً بيروقراطياً، يعتمد في الوظيفة على مبدأ "تغييب الشموس وقبض الفلوس"، ويحكي، عندما يجتمع مع زملائه، عن قلة الراتب، وكيف أنه لا يكفي الموظف لليوم السادس من الشهر، وكان يشترك في جمعيات شهرية، وافتتح سجلاً خاصاً للدفعات والأقساط المترتبة عليه.. وقد ساعده على هذا التحايل و(الأَوَنْطة) أن مكتب قمع المخالفات لم يكن فيه عمل محدد، إذ لا توجد في كل المنطقة مخالفات تتطلب أن يأتي أحدٌ ما ويقمعها، فهناك آلية، لا يعرف أحد في العالم كيف تشكلت، تنظّم العمل بين موظفي الحكومة وأصحاب المهن التجارية. هل تعرف كيف كان يحصل هذا التوازن بين الطرفين؟
- كيف؟
- يذهب موظف التموين مثلاً في جولة لقمع المخالفات التموينية، يجد بائعاً لم يعلن عن سعر سلعة ما. يهدده بكتابة ضبط مخالفة يؤدي إلى سجنه، وإجباره على دفع غرامة كبيرة. يخاف البائع، ويدفع رشوة للموظف، هذه الرشوة تؤدي إلى رفع سعر السلعة، ويتحمل المواطن هذا الارتفاع. ثم يأتي موظف المالية ليحسب ضريبة الدخل على البائع نفسه، وعندما يعلمه أن ضريبته 25 ألف ليرة سورية سنوياً، يبدأ البائع بالشكوى والبكاء، ويحكي عن ارتفاع الأسعار، وازدياد تكاليف الحياة، وهذا لا يؤثر عاطفياً بالموظف، لأن عواطف الموظفين تتبخر عبر الزمن، فيضطر البائع للجلوس مع الموظف جلسة عقد صفقة، يعني "بازار"، ويتفقان على رشوة تُدفع فوراً لقاء تخفيض الضريبة للنصف. وهكذا تخسر خزينة الدولة نصف الضريبة الحقيقية، ويربح البائع، ويربح الموظف المرتشي، ثم إذا أراد أي إنسان أن يقمع مخالفات، لن يعثر على شيء، إلا إذا كان خارق الذكاء في مجال الفساد الإداري.
- على علمي أنه رجل خارق الذكاء بالفعل.
- طبعاً، ولكنه، كما قال، لم يكن يحب أن يأكل لقمته بهذه الأساليب، يعني هو يحب أن يحسّن وضعه المالي، ولكن بعرق جبينه، لذا صار يفكر في عمل إضافي، مع أنه لا يجيد أي عمل. المهم، ذات مرة، كان مداوماً في مكتبه، وسمع المؤذن يعلن عن اسم ميت من أعز أصحابه، وبعد حوالي ساعتين، ترك عمله وذهب ليعزي، وهناك التقى بزميله في مديرية المالية، "أبو عدنان الداماوي"، يقوم بدور الواعظ، فتعجب، وبقي في مجلس العزاء إلى حين انصراف أبو عدنان، وتقصد أن يمشي بجواره، وراح يسأله عن كيفية التوفيق بين الدوام في الدائرة وهذا العمل الخاص، فقال أبو عدنان إنه من النادر أن يموت الناس أثناء الدوام، وعندما يحصل ذلك يمكنه أن يهرب، شريطة أن يعود إلى مقر الدائرة قبل انتهاء الدوام. ثم سأله:
- عفواً أخي أبو عناد. لماذا تسألني؟ هل ستعمل في الوعظ مثلي؟
فقال: لا طبعاً. إنني أفكر بعمل آخر. ولكنني أسأل عن تقنيات الهرب.
(وللحديث صلة)