تعاطيًا مع الكارثة... الأثر الداخلي
ليست الأزمة ما نملك، إنّما ما نريد. تقول التجربة.
وواقعنا العربي، والمصريّ خصوصًا، يرسّخ ذلك بجلاءٍ فاضح، فما تمتلكه هذه البلاد هائلٌ في حقيقته وأثره، لكنهم يؤثرون نقيضه اختيارًا لمعسكر الآخر/ العدو؛ فقط لأنّه يوهمهم بضمان بقائهم على الكرسيّ ما بقوا على العهد معه.
لم تكن "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"أوسلو" أوّل الخطى على سبيل التفريط، كما لن تكون "الاتفاقات الإبراهيميّة" و"تيران وصنافير" واتفاقيّات الغاز (رايح جاي)، أو الحاصل في معبر رفح الآن آخره، هذا منزلقٌ لا قاع له، والناظر لما يُقال وما يُفعل، يدرك إلى أين يتّجهون بنا وببلادنا.
كانت فلسطين (وما زالت) محورًا لتشكّل الحياة السياسيّة بمصر، لا على مستوى الحكم وحده: خلع الملك، تولّي/ استيلاء الضبّاط الأحرار، شرعيّة عبد الناصر، ثم تزعزعها بهزيمة 67، ذروة المجد الساداتي مع 73 ثم اغتياله عقابًا على كامب ديفيد، إنّما حتى على مستوى الشارع، والحراكات الجماهيريّة التي أنتجت تنظيماتها وخطاباتها، ثم انطلقت بها للانخراط في العمل السياسي والحزبي.
ما تمتلكه هذه البلاد هائلٌ في حقيقته وأثره، لكنهم يؤثرون نقيضه اختيارًا لمعسكر الآخر/ العدو؛ فقط لأنّه يوهمهم بضمان بقائهم على الكرسيّ ما بقوا على العهد معه
أتّجه مُعتقدًا للبدء بالانتفاضة الثانية 2000م كمحطّة تأسيسيّة، ربّما عند كلّ حديث عن ثورة 25 يناير/ كانون أول 2011، لا بما أعادته للشارع السياسي المصري من زخم، ولا ما خلّفته من فرص تراكمت حتى بلورت تصوّرات الحركة الوطنيّة عن التغيير، التي لم تكن مطروحه بهذا الوضوح/ التنظيم من قبل، فقط؛ إنّما بما أحدثته في وعي هذا الجيل من إدراك للغايات، واستيعاب للأدوات (لا أنسى نقاشات جمعتني مع بعض قيادات الانتفاضة، في حيّ الشجاعيّة بغزّة 2008 حول الأدوات السلميّة في مواجهة قمع السلطة/الاحتلال، التي لم تكن بعيدة عمّا استخدمناه بالفعل في يناير 2011م).
هذا الأثر الذي أحدثته القضيّة الفلسطينيّة على الشارع المصري وقت الانتفاضة، وهمّت بإحداثه الآن، تُدركه السلطة، كما ندركه نحن وأكثر، والهاجس لديها من تكرار تخليق طليعة التغيير على قاعدة مناصرة القضيّة، وإعادة تنظيم الشارع في حراكات تضامنيّة، تجنح لا محالة لانتقاد نظام الحكم، أو مهاجمته؛ يتضخّم يوميًّا لدى السلطة بأجهزتها المختلفة، خصوصاً في وضع اقتصادي مأزوم (يقترب من الانهيار بحسب تقديرات خبراء)، يمكن رؤية تداعياته على الحياة اليوميّة في الأسواق والمواصلات العامة، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، ومعضلة سياسيّة يواجهها النظام كما السياسيون في المعارضة، بعد تجريف كلّ احتمال للعمل أو التنظيم، أو حتى التفكير السياسي بمصر منذ 2013م.
هذا منزلقٌ لا قاع له، والناظر لما يُقال وما يُفعل، يدرك إلى أين يتّجهون بنا وببلادنا
إذ لم تعد لدى السلطة جماعات ضخمة يمكنها امتصاص الغضب الجماهيري في لحظات الغليان لأسباب داخليّة أو خارجيّة، بالتنسيق حول مساحات الحركة وسقوف الخطاب، ولم تعد هناك أحزاب لها أي أثر في الشارع بعد تصفيتها، السيطرة على أغلبها أو استئناسه (أيّهما أوفر) تؤطّر الموقف المعارض في حدود ما يمكن تداركه.
والتجريف المطلق، لم يضمن للسلطة انتفاء الاحتمالات، كما بشّرنا، وتثبت الأيام، هو فقط أجّلها، وأهدر الكثير من فرص توقّعها أو استيعابها (حدوثًا وأثرًا)، وهو الذي جعل الضربة في مواجهة وصول المتظاهرين المستقلّين عن دعوات الأجهزة، والتي بدأت (الضربة، كما الحركة) مرتبكة، ثم تتخذ طابعًا ردعيًّا بالأساس، في الاعتداء والقبض والإخفاء للمتظاهرين الذين لم يفوّتوا فرصة الوصول إلى ميدان التحرير (أحد أهم رموز الثورة) ورفع هتافات تؤكّد انحيازهم (عيش، حريّة.. فلسطين عربيّة) باعتباره هو الآخر أحد رمزيات الثورة، وهو ما عزّز مخاوف السلطة وجنح بها لإلغاء خيار "الشارع" تمامًا، بعد التأكّد من فقدان القدرة على السيطرة عليه.
إذًا، فلسطين تلعب دورها (كعادتها القسريّة)، وطرفا الصراع يُدركان الأثر ويعرفان قادم الخطواتِ التي عليهما اتخاذها، والسلطة كانت آخر المتحرّكين، ردًّا على وصول الآلاف للتحرير وخروجهم عن السياق (الذي كانت مستعدّة بالسماح به على مضض).
لم تعد لدى السلطة جماعات ضخمة يمكنها امتصاص الغضب الجماهيري في لحظات الغليان
والخيارات أمام الطرف الآخر شديدة المحدوديّة:
أولاً، استقبال الرسالة وقبولها، وهو الحاصل للآن، مع امتصاص أثر الحراك/الضربة، واستعادة التواصل مع السلطة على أرضيّة انسحاق ما قبل الحرب، في حدود التفاوض على المعتقلين مقابل مواقف دعم أو مشاركة أو شرعنة، حسبما يُطلب في كلّ موقف كثمن لكلّ رأسٍ على حدة.
ثانيًا، إعادة النظر في آليات ومساحات التحرّك الممكن انتزاعها، مواكبةً للزلزلة الحاصلة في غزّة من ناحية، ومناهضة خطّة التهجير من ناحية أخرى، مع صياغة طرح يؤجّل "خناقات" الداخل لما بعد الانتهاء من خطر اللحظة؛ وهو ما لن تقبله السلطة غالبًا، لأنها ليست مستعدّة على ما يبدو لاتخاذ أيّة خطوات عمليّة بخصوص قطع العلاقات الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والمعلوماتيّة، أو وقف استيراد الغاز الذي كان أولى الأوراق التي استخدمها العدو للضغط على مصر، أو حتى فتح المعبر بشكل كامل لعبور قوافل المساعدات والوقود وعشرات الآلاف من المتضامنين وإحداث ضغط (جماهيري دولي) على أرض المعركة، تنقل الأزمة لإسرائيل في قرار التعامل مع هذا الضغط.
ثالثًا وأخيرًا، الاستمرار في إعادة التموضع ما بعد الانسحاب الأخير من المشهد، والاكتفاء بدور المتفرّج إلى أن تقع الطّامة ونصحو على ما كنّا نحذّر منه بعد أن استقرّ ورسخ.