بين العيش تحت الأضواء وفي الظل
كلّنا يعلم تلك اللازمة التي يردّدها الجميع، والتي تقول إنّنا نعيش اليوم "عصر الصورة"، وذلك في إشارة إلى ارتباطنا الكبير بالشاشات، بدءاً من ظهور شاشة السينما والتلفزيون، وصولاً إلى الطفرة التي يشهدها المجال اليوم، في مشهد تطغى فيه الصورة على ما سواها من وسائل التواصل، حيث تتربع شاشة الهاتف المحمول على جميع الشاشات، وذلك بعد أن أضحى الهاتف واحداً من الحاجيات الأساسية للإنسان الحديث، ليس على المستوى السِّلَعي فقط، بل وعلى المستوى الوجودي والوجداني كذلك.
وقد كان من تبعات طغيان الصورة في عصرنا أن صار "حب الظهور" هاجساً يداعب خيال أفراد مجتمعاتنا، وحبّ الظهور هذا لا يقتصر فقط على إحدى الشاشات الإلكترونية أو المنابر الإعلامية، بل أصبح ظاهرة ذات امتدادات ثقافية، تبلورت في شكلِ رغبة في "تصدّر المشهد"، أيّ مشهد كان.
إنها ثقافة "لفت الانتباه"، والتي أضحت مرادفاً، أو لنقل، شرطاً من شروط النجاح، فما عاد اليوم قضاء الحوائج بالكتمان فضيلة تُرتجى بين بني البشر، بل يرنو الجميع اليوم إلى حياة تُسلّط عليها الأضواء. لا تهم الوسيلة المتبعة في جلب تلك الأضواء بعد أن صارت غاية تبرّر كلّ ما شئت من الوسائل، ثم بعد ذلك، وتدريجياً، تحوّل نيل الأضواء من غاية إلى وسيلة تُستغل بدورها لتحقيق مآرب أخرى.
على شاكلة مؤثري "فيسبوك" و"إنستغرام"، حيث المشاهدات تُدر أرباحاً طائلة، أصبح الظهور في الصورة، وتسويق هذا الظهور، وسيلة لتحقيق المكاسب. إنه سبيل النجاح يا سادة يا كرام في مختلف مجالات الحياة، ومنها العمل، إذ ما عاد يكفي أن تؤدي وظيفتك، وتُظهر، فقط، "مهاراتك" على الواجهة، بما يُمكنك من ترقي مدارج الرتبة الوظيفية.
تحوّل نيل الأضواء من غاية، إلى وسيلة تُستغل بدورها لتحقيق مآرب أخرى
أما في ما يخصّ وسائل الإعلام فحدّث ولا حرج، هنا تجد كلّ طرق التزييف حاضرة لمداراة الحقيقة، ونفس الأمر ينطبق على مجالات أخرى كالموسيقى والدراما، فنحن أمام، إما بهرجة صورية في الغناء، وإما أعمال درامية تُجافي الإبداع الحقيقي. كما أنّ السياسة أضحت بدورها ميدان الصورة بامتياز، لا يهم ما ستُنجز، بقدر ما يهم تقديمك للمنجزات في شكل مشاريع صورية براقة. حتى ميدان الفكر، ما عاد يهم فيه المنتج الفكري بقدر ما يهم ملء الشاشات والمنابر التي يُطرد منها اليوم المثقفون لصالح أشباه المثقفين، مثل ما تطرد العملة الجيدة لصالح العملة الرديئة من السوق.
تصوّروا، وفي مثال آخر أكثر سطوعاً، حتى الأعمال الخيرية والإحسانية لم تنجو من هاجس الاستغلال الصوري، فما عادت الأُعطيات تُقدّم خفية حتى يكتمل أجرها، بل صار أهم ركن فيها التصوير والدعاية، والأمر ينطبق على جلّ الفضائل الأخلاقية الأخرى. إننا في عصر محاكاة الفضيلة بشكل صوري، في ظلّ غياب حضورها بشكل فعلي. ولأنّنا نعيش في مجتمعات يطبعها الاستهلاك والمادية، فحتى متع الحياة ما لبثت أن صارت استهلاكية، حسّية، وبالتالي سريعة الزوال، لأنها دائمة الانفتاح على احتياجات أخرى تبدو لانهائية، ما يجعلها بالنهاية صورية، أهم ما فيها التفاخر، وإظهار ذلك الفرح العابر الذي سرعان ما سينقضي، كمثل ماء يتسرّب من بين الأصابع.
أصبح الإنسان اليوم عبداً لإكراهات صورية، تصادر فيها الإرادة الحرّة لصالح إرادة تأتي من خارج الذات، إرادة السيستم وإرادة السوق وإرادة المجتمع...
مقابل كلّ ذلك، ما عادت عبارة "حياة هانئة" تعني، اليوم، أن يحيا الإنسان حياة هادئة في الظل، من غير اكتراث بجلب استحسان الآخرين ونيل تصفيقهم، فمن يبتغي حياة كهذه اليوم صار يصنّف ضمن فئة المنبوذين وعديمي الطموح! العيش في الظلّ اليوم هو مناط اليائسين! ممن انقطعت آمالهم، أو ممن هم في انتظار أدنى فرصة للانقضاض على بارقة ضوء تخرجهم من ظُلمة الإقصاء. إنّ السعي إلى مكانة مقبولة بين الناس صار يمرّ لزاما عبر إرضائهم، وهذا الإرضاء لا يتأتى سوى بتقديم صورة عن الذات تلقى الإعجاب، وطبعاً لا حاجة هنا إلى توّخي صدقية تلك الصورة، طالما الأهم هو جاذبيتها، والثناء عليها من قبل الآخرين.
إنها، إذاً، ديكتاتورية الصورة وخديعة المظهر التي تريد للكل أن ينصهر في بوتقتها، وينخرط فيها بشكل آلي، دونما تمحيص لتبعاتها المأساوية على كينونة الإنسان، حين تحوّله لضحية استلاب، وتُلقي به في حالة اغتراب عن ذاته، بحيث يصبح الإنسان والحالة هذه عبداً لإكراهات صورية، تصادر فيها الإرادة الحرّة لصالح إرادة تأتي من خارج الذات، إرادة السيستم وإرادة السوق وإرادة المجتمع... والنتيجة جري محموم، ولاعقلاني، من أجل الحصول على مكان ما في صورة ما، مُسلّطة عليها أضواء ما، فمثل ما هو الحطب وقود للنار، صارت الصورة والمظهر وقودًا لإنسان اليوم، تستثيره برغبات الوصول إلى مباهج لا يقاوَم إغراؤها، لكنها، وإن تحققت، فإنها تكون سطحية وزائفة، وذلك لأنها خالية من كلّ معنى عميق وحقيقي.