بيروت... الوقاحة أمام الفاجعة
لم تكن الفاجعة التي شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت يوم 4 أغسطس/ آب 2020 عادية فعلاً. مرت ساعات وساعات ولم نستفق بعد من هول الصدمة ونصدق المشهد. إلا أنّ كل ما تلا الفاجعة في لحظاتها الأولى لم يكن غريباً على اللبنانيين.
لم يكترث رأس هرم السلطة ميشال عون أن ينطق بكلمة لشعبه واكتفى بتغريدة بعد ساعات تطمئن الناس المكلومين قرب زجاج قصره. أما رئيس السلطة التنفيذية حسان دياب فخرج يصفّ الكلمات ويتلو الآيات، في حين اختار رئيس السلطة التشريعية نبيه بري استحضار الشعر الرديء والتشبيهات الغليظة مستعيناً مرة أخرى بقيامة "طائر الفينيق" الذي بات شعاراً تافهاً لا يعني الناس الباحثين عن كرامتهم كمواطنين.
لم يكلّف مسؤول في هذه السلطة المهترئة نفسه لتحمل ما يجب تحمله أمام هول الكارثة، لم يخبرونا ماذا وقع وكيف، حتى أنهم واصلوا الاستخفاف بعقولنا بالحديث بداية عن انفجار "كونتينر مفرقعات" لتبرير ما حصل. لم تحصل توقيفات ولا استقالات ولا تكليفات لغرفة عمليات أو جهات تحصي الأضرار. لم يستدع أحد إلى تحقيق كما يستدعى يومياً ربما صحافيون وناشطون يكتبون معبرين أو يغردون منتقدين.
لم يكن ما عمدت إليه السلطة غريباً فعلاً فكل ما منّنت به الشعب هو تشكيل لجنة كما هو الحال في أي قضية من القضايا التي تؤرقنا. لجنة كما الغيمة تذهب كما أتت وأكبر ما تفعله أن تكدس ملفات فوق الملفات في درج بهذا المجلس أو ذاك.
لا ندري حقاً ما أكثر فداحة: الكارثة التي حلّت بنا أم وقاحة الطغمة الحاكمة الجاثمة فوق أنفاسنا؟
حتى أنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أكمل المشهد العادي باعتداء مرافقيه بطريقة تشبيحية على الناس الغاضبة في وسط بيروت بعد أن اختار بداية أن يتفقد سجاد المسجد وزجاج الكنيسة متجاهلاً المرور على آلاف المشردين والمتطوعين يلملمون بقايا منازلهم في الشارع المجاور. وانشغل تياره السياسي بالمقارنة بين حجم انفجار بيروت وذاك الذي قتل والده رفيق الحريري قبل سنوات معتبراً أن الثاني أقوى من الأول وكأننا في سباق لحصد رقم قياسي كما في صحن الحمص والتبولة.
لا ندري حقاً ما أكثر فداحة: الكارثة التي حلّت بنا أم وقاحة الطغمة الحاكمة الجاثمة فوق أنفاسنا؟
أي وقاحة تلك التي لا تمنع مدير عام الجمارك بدري ضاهر من الظهور على الشاشات ورفع المسؤولية عن نفسه وكأن الكارثة التي حلت إعصار طبيعي أو حادثة 'قضاء وقدر' بينما الناس تكاد لا تصدق كيف ترك المسؤولون آلافاً من الأطنان من مواد خطيرة في وسط مدينتهم بين بيوتهم ومكاتبهم، بين مستشفياتهم وحضانات أطفالهم قنبلة موقوتة غير مكترثين، علموا بها مهما كذبوا بأنهم لا يعلمون، وكيف أرسلوا فريق الإطفاء إلى حتفه في مهمة أخيرة غير مبالين.
ليست غريبة هذه الوقاحة من طبقة سياسية تستغرب تشكيك الناس بتحقيقاتها في الكارثة، وتستحضر خطابات هيبة الدولة، هي ذاتها التي تكذب قطع الكهرباء بينما نشعل الشموع، وتصف احتجاز أموالنا وانهيار عملتنا بالشائعات.
ليست غريبة هذه الوقاحة من طبقة سياسية تلعب على الوتر الطائفي بسلطة السلاح متى أرادت، هي ذاتها التي تعقد صفقات 'التوافق الديمقرطي' متى اتفقت.
ليست غريبة هذه الوقاحة من طبقة سياسية تقطع الكهرباء والمياه، تهمل الشوارع والطرقات، تتجاهل النفايات والخدمات، تدع الناس يغرقون كل شتاء، يموتون على أبواب المستشفيات، لا تكترث لضمان شيخوخة ولا لحقوق امرأة وعامل ولاجئ، هي ذاتها التي تدعو منْ 'مش عاجبو' ليهاجر.
لعل هذه الغيمة التي انفقعت لحظة حلّت الواقعة ما كانت إلا تجسيداً لما نكبته كل يوم في أنفسنا أمام أهلنا عاجزين وأصدقائنا الذين باتوا في عداد المغتربين، وما تراكم من معاناتنا كل هذه السنين بينما ننام ونستفيق على العتمة ونعلق في نفق ونشكو بطء الإنترنت ونستعين بالمهدئات ونقف حائرين كيف ندفع الفواتير والمستحقات.
لا أدري فعلاً إذا كان لدى الناس العاديين أمام هول مشهد موت أحبابهم ودمار ممتلكاتهم، وأولئك الناجين أمام تهشم أعصابهم وتحطم نفسياتهم وانكسار قلوبهم كما زجاج منازلهم، من جلَد للصراخ في وجه الحاكمين الوقحين.
يلملم اللبنانيون اليوم ما تبقى من إدراكهم ووجودهم كما يلملمون بقايا منازلهم وممتلكاتهم، علهم يخرجون من تحت الركام قوة يحاسبون بها مسؤوليهم ويردمون معها وقاحة حاكميهم.. مرة واحدة وإلى الأبد.