بركات فيليب روث تحل على آل باتشينو (2/3)

17 اغسطس 2021
+ الخط -

لا أريد أن أستفيض أكثر في الحديث عن هذا الفيلم الجميل، لكيلا أفسد عليك متعة مشاهدته إن لم أكن قد أفسدت جزءاً منها بالفعل، لذلك أتركك لبعض ما قاله عنه مخرجه باري ليفينسون صاحب الخبرة الفنية العريضة والذي جاء حديثه في ندوة الفيلم مع الناقد ديفيد دينبي مفيداً وممتعاً، وإليك اختياري وترجمتي لأهم ما جاء فيه:

ـ هل يمكن أن تحدثنا عن المشروع وكيف بدأت علاقتك به؟

اتصل بي المنتج آفي ليرنر وقال لي أنه قرأ رواية (ذي هامبلينج) لفيليب روث وأنه يراها مشوقة ونصحني بقراءتها، وعندما قرأتها اتفقت معه، وفهمت لماذا أحب الرواية، وتوقعت أن تعجب آل باتشينو، وبالفعل مسّته الرواية كممثل لديه خبرة ضخمة من التمثيل اكتسبها على مدى خمسين عاماً من العمل، وعلى الفور بدأنا العمل على الرواية، مقررين أن نركز أكثر على خط الممثل الذي يعاني من مأساة التقدم في العمر، وربما لذلك ستجد اختلافات عديدة بين الرواية والفيلم، العملية كانت سريعة جداً، فقد تطلب الفيلم عشرين يوماً فقط لتصويره ـ صفق الجمهور تصفيقا حادا عند هذه النقطة لأن الفيلم لا يبدو عليه إطلاقاً أنه تم تصويره في زمن قياسي كهذا ـ وكان لدينا ميزانية محدودة هي 2 مليون دولار ـ تعتبر محدودة جدا قياسا بالكثير من الأفلام ـ ولكي نستطيع الحفاظ على الميزانية في وجود عدد من الممثلين جميعهم مرتبطون بمشاريع يحصلون منها على أموال أكثر مما حصلوا عليه معنا، اضطررنا لأن نقوم بتصوير الفيلم عبر فترة زمنية طويلة طبقاً لظروف المشاركين في صناعته، كنا نصور أحيانا لمدة خمسة أيام ثم نوقف التصوير لأربعة أسابيع حتى نجد موعداً يسمح للجميع باستئناف التصوير، فنقوم بتصوير ستة أيام ثم نوقف التصوير لفترة أطول، لكن هذا أفادنا بشكل آخر، فقد سمحت لنا فترات التوقف الطويلة بالتفكير الدائم في تطوير السيناريو والعمل عليه وإغنائه بالمزيد من التفاصيل، كما أن هذا المدى الزمني الطويل أعطاني فرصة على المستوى البصري لتصوير مشاهد في الصيف وأخرى في الربيع وأخرى في عز تساقط الثلوج في الشتاء، ليكون هناك بدون أن أقصد إحساس بمرور الزمن كان الفيلم يحتاج إليه، وكل هذا أضاف إلى قدرتنا على تطوير الشخصيات لتخرج بالشكل الذي ظهر في الفيلم.

ـ المشهد الذي يبدأ به الفيلم ونرى فيه الممثل الذي يقوم بدوره آل باتشينو وهو يجلس أمام المرآة في غرفته يحضر نفسه لدخول خشبة المسرح ويقوم بترديد مونولوج به كلام غير مفهوم بالإضافة إلى بعض العبارات من مسرحيات شهيرة ثم يقوم بالإمساك بقناعي المسرح الشهيرين الكوميديا والتراجيديا ويقوم بتقبيلهما وضمهما إلى وجنتيه كأنه يحصل منهما على بركة، لا أتذكر أن هذا كان موجوداً في رواية فيليب روث، هل كان هذا المشهد مرتجلاً أم مكتوباً؟

المشهد كان مكتوبا لكن الحوار كان مرتجلا، والمشهد بأكمله لم يكن موجودا في الرواية، بل إن فكرة أن يلقي بنفسه من على خشبة المسرح كمحاولة للانتحار أيضا لم تكن موجودة في الرواية، في الحقيقة لم أعد أتذكر كيف تبدأ الرواية.

فكرة أننا نصور بكاميرا ديجيتال جعلتني أكثر حرية في التعامل مع هذا المشهد، وساعدني على أن أختار أفضل نتيجة ممكنة قدمها آل من المرات التي تم تصوير المشهد بها، وكان زمن ما اخترته لا يتجاوز أربع دقائق

ـ الرواية تبدأ بفكرة أن الممثل يشعر أنه لم يعد قادرا على التمثيل؟

صحيح، وهذا المعنى الذي التقطناه، ولذلك كان مهما أن نمهد له بشكل مختلف كما ظهر بعد مشهد مواجهته للمرآة أنه يجد نفسه تائها في كواليس المسرح، في الحقيقة كنا قد قررنا منذ البداية ألا نتقيد حرفيا برواية فيليب روث لأن بعض الروايات لا يمكن ترجمتها حرفيا، لذلك أخذنا أجزاء من رواية فيليب وقمنا بتطويرها والإضافة إليها، لكن كل ما تم إضافته متسق تماما مع الخط الرئيسي للرواية. الفكرة هنا ليست فقط أنه يشعر أنه لم يعد قادرا على التمثيل، بل أنه يشعر أنه في نهاية أيامه وأنه أصبح بعيدا عن كل ما يدور حوله، لذلك نرى كيف يحاط بأشكال مختلفة من العلاقات الجنسية الراهنة الآن مثل اكتشاف أن بنت رفيقته القديمة تمارس علاقات مثلية وأنها تستخدم الألعاب الجنسية لإشباع لذتها، أو أن حبيبتها السابقة تحولت إلى رجل، وما إلى ذلك من تفاصيل توحي بأن هذا الرجل لم يعد لديه أي علاقة بما يدور حوله في هذه اللحظة، ولذلك نستخدم في الفيلم فكرة أنه لم يعد قادرا على أن يدرك ما هو الحقيقي وما هو المتخيل حوله، هل المشاهد الغريبة التي يراها سببها أدوية الاكتئاب التي يأخذها أم أنها حدثت بالفعل لأن لديها سندا من الواقع، هل مارس علاقة مع ابنة رفيقته أم لا، هو ليس متأكدا، هل قالت له رفيقته أن ابنتها هي ابنته بالفعل أم أنه يتخيل ذلك؟، كل هذا للتأكيد على فكرة انفصاله عن الواقع المحيط به.

ـ فكرة أن يقوم باتشينو بدور ممثل يفقد مهارته بعد تقدم العمر، هل يمكن أن تحدثنا كيف كان وجود مثل هذه الفكرة مهماً لآل باتشينو ولكم خلال عملية إنتاج الفيلم؟

لاأعتقد أنني قابلت خلال مشواري ممثلا يحب حرفته بالشكل الذي يحب آل به التمثيل، ذهنه الحاضر طيلة الوقت ساعدنا خلال تصوير بعض المشاهد على إغناء الحوار، يعني في بعض المشاهد نجده خلال الإعداد للتصوير يتذكر عبارات من مسرحيات قام بتمثيلها لشكسبير أو تشيكوف ويقترح إضافتها لكي تكون معبرة عن شخصية الممثل الذي اختلط في ذهنه عبر السنين التمثيل بالواقع، ولذلك أستطيع أن أقول إنني استفدت من مهارة باتشينو وليس من خوفه الشخصي بأن يفقد مهارته. كما استفدت من قدرته غير العادية على أن يمزج بين الكوميديا والتراجيديا، لأن هذه هي الروح التي كان الفيلم يطمح في تقديمها، أن تقوم بتقديم لمحة كوميدية وسط مشهد تراجيدي والعكس، انظر مثلا إلى الطريقة التي كان يحرك بها عينيه عندما يسمع شيئا غريبا وكيف نجحت في إثارة الضحك دون أن يتحدث، ببساطة هذا ممثل يحب حرفته ويدرك مفاتيحها جيدا.

ـ هناك مشهد خلال مشاركة البطل في عملية العلاج النفسي الجماعي تم تصويره عبر لقطة طويلة مستمرة (one shot) حيث يحكي فيه الممثل عن تجاربه لشركاءه في الجلسة، نرى آل فيه خلال حكيه يقوم بتحريك شعره الشهير كما يفعل في الأفلام، لنشعر للحظة أن آل يتحدث هنا عن نفسه، قبل أن يعود ليحدثنا عن الشخصية بالذات، هل كان ذلك متفقا عليه؟

في الحقيقة لا أتذكر ذلك، ربما لأننا في هذا المشهد بالذات قمنا بممارسة لعبة ممتعة، اتفقنا على الأفكار الرئيسية للمشهد وتركت آل يتحدث على سجيته، وقمت بتصوير 15 دقيقة متصلة في بعض المرات، فكرة أننا نصور بكاميرا ديجيتال جعلتني أكثر حرية في التعامل مع هذا المشهد، وساعدني على أن أختار أفضل نتيجة ممكنة قدمها آل من المرات التي تم تصوير المشهد بها، وكان زمن ما اخترته لا يتجاوز أربعة دقائق.

ـ ما أذكره أيضاً أن الرواية لا يوجد في نهايتها قيام البطل بقتل نفسه على خشبة المسرح من خلال دور الملك لير كما قدمت ذلك، بل يوجد مشهد من مسرحية النورس لتشيكوف؟

لكنه في الرواية يقتل نفسه ولكن بطريقة مختلفة، يضرب نفسه بالنار على ما أتذكر، لكن اختيارنا لأن تكون النهاية مشهدا يقتل فيه نفسه على خشبة المسرح، كان ربما لأني شعرت بأن ذلك طريقة مسرحية أكثر، صادف أثناء إعدادنا للفيلم أن قرأنا عن ممثل في مكان ما قام بتمثيل مشهد الموت على خشبة المسرح ببراعة جعلت الجمهور يصفق ثم يحتار ثم يخاف ـ بالفعل حدث ذلك في البرازيل وكنت قد كتبت عن الواقعة بعد أن قرأتها في صيف 2011 في مقال بجريدة التحرير ـ وظننت أن هذه من الممكن أن تكون نهاية ممتازة لتقديم مشهد الإنتحار كمزيج من الإحتفاء بالموت والمسرح في نفس الوقت، (ساخراً) إنها في الواقع ممكن أن تكون نهاية سعيدة ولكن لشخص لديه ميول انتحارية.

ـ كنت قد قرأت وصحح لي أن باتشينو كان راغبا في عمل فيلم عن (الملك لير) لكن هذا لم يحدث، فهل كان هذا الإختيار بمثابة تعويض عن المشروع الذي لم يحدث؟

لا أدري أنه كان فعلا سيقوم بعمل الملك لير، أعتقد أنه كان مجرد إعلان عن رغبته في عمله، لكن لم يكن هناك مشروع فعلي، أنت تعلم أنه يحب أداء هذه الكلاسيكيات بشكل تجريبي، لكن ذلك لم يكن له علاقة بما قدمناه.

ـ في فيلم سابق لك قدمته مؤخرا مع روبرت دي نيرو بعنوان (ما الذي حدث الآن) قدمت فكرة منتج كبير يحاول عمل فيلم لكنه لا يجد من يساعده على تمويله، برغم اختلاف القصة هل تعتقد أن هناك تشابه في فكرة التقدم في العمر وانعكاسه على عمل الفنان؟

في الواقع ذلك فيلم مختلف تماما في كل تفاصيله، وبالمناسبة كنت أعتقد أنه فيلم جيد، لكنه انتهى مع الأسف بوضع غريب هو أنه لم يجد موزعا يوافق على توزيعه برغم وجود دي نيرو وبروس ويليس وشين بين، لكنه وسط ما يجري الآن في عالم التوزيع لم يجد من يحدد له موعدا للعرض وانتهى به الأمر أنه لم يعرض أبدا، لكنه فيلم جميل في رأيي، (ضاحكا بمرارة) غالبا ستجدونه في مكان ما في هذه الأشياء الكثيرة التي تعرض الأفلام هذه الأيام.

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.