باتشينو يصنع من فسيخ الواقع شربات!

30 مارس 2021
+ الخط -

ستستمتع بهذا الفيلم إذا تركت نفسك تتورط مع أداء ممثليه، فهو من نوعية الأفلام التي يضفي تميز ممثليها في الأداء وهجاً يغطي على تقليدية قصته، وربما لو حاولت معرفة قصته قبل أن تقرر مشاهدته، لترددت في مشاهدته حتى لو كنت تحب نجمه الممثل الكبير آل باتشينو، لأن أي تلخيص مهما كان بارعاً لقصة الفيلم قد يدفعك للحكم عليه سلباً، فقد حشد مؤلفه ومخرجه كثيراً من تيمات الدراما كثيرة الاستخدام ومضمونة التأثير، وعلى رأسها تيمة الأب الذي لم ير ابنه لسنين طويلة، وحين يقرر أن يختم حياته برؤيته، يكتشف وجود أزمة ضخمة يقع فيها ابنه فيحاول التدخل لمساعدته، وسط مقاومة من الإبن الذي يرغب في أن ينتقم من أبيه لبعده الطويل عنه، وربما لذلك حرص صناع الفيلم على أن يضعوا في مقدمة الفيلم عبارة "الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية نوعاً ما"، لتشعر وأنت تشاهد الفيلم أن الواقع لا يكف عن إدهاشنا، ولو كان ذلك بقدرته على إعادة إحياء كليشيهات الدراما التي قتلتها المسلسلات المكسيكية والأفلام الهندية استخداماً.

بعد مشاهدة فيلم   Danny Collins ستفهم سر تعبير "نوعاً ما" الذي استخدمه صناع الفيلم، لتدرك أن الواقعة الحقيقية التي اعتمدت عليها القصة، لم يتم استخدامها إلا كنقطة انطلاق درامية تتحرك منها الأحداث، إلى مساحة تختلط فيها الكوميديا بالميلودراما، وكان يمكن لذلك أن يصنع فيلماً أقل من العادي، لولا التمثيل المدهش الذي قدمه النجمان آل باتشينو وآنيت بانينج التي لم تفقد سحرها وتألقها، ومعهما الممثل المستمر في الصعود منذ سنوات بوبي كانيفالي الذي قدم أداءً مختلفاً عن الصورة التي تعود المشاهدون على رؤيتها في أداء أدوار الشر، كما لا يمكن إغفال الدورين اللطيفين اللذين لعبهما الممثل المخضرم كريستوفر بلامر والنجمة جنيفر جارنر، حيث تحولت بعض المشاهد التي سبق أن رأينا مثيلاً لها في أعمال درامية كثيرة، إلى مباريات ممتعة في التمثيل، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مشهد لقاء الأب (باتشينو) بابنه وزوجته وحفيدته لأول مرة، أو مشاهد مغازلة باتشينو لأنيت بانينج، ومحاولته دعوتها إلى العشاء معه ورفضها المتكرر لذلك، إلى أن ينجح في النهاية بعد أن "ذلّت أنفاسه".

يلعب آل باتشينو في الفيلم دور  Danny Collins وهو نجم روك في السبعين من عمره، لكنه لا يظهر كنجم غنائي متقاعد يتذكر أمجاد الماضي الغابرة التي يلعب مشاهدها ممثل أصغر سناً، بل يلعب دور نجم روك ناجح لا يزال قادراً على إحياء حفلات حاشدة، يتوافد فيها جمهوره المنتمي إلى أعمار مختلفة، وإن كانت نسبة لا يستهان بها من جمهوره من السيدات الكبيرات في السن اللواتي يذكرهن بزهوة شبابهن، ومع أنني من محبي باتشينو، وممن يعتقدون بقدرته على لعب أي دور يناسب سنين عمره التي ستكمل الخامسة والسبعين بعد أيام، إلا أن تصوره وهو يغني على خشبة المسرح، ويؤدي حركات استعراضية تثير حماس الجمهور المحتشد لمشاهدته، كان يتطلب مجهوداً في الإقناع لا علاقة له بالحب المسبق لمشواره التمثيلي، ومن المؤكد أن باتشينو لو لم يدرس ملياً تجارب بعض المغنين الذين تجاوزوا السبعين، وبالأخص باري مانيلو الذي بدا في بعض المشاهد قريب الشبه به وبطريقة أدائه، لما كان قد أبدع في أداء المشاهد القليلة التي يغني ويرقص فيها، والتي يتوقف عليها إقناع الفيلم للجمهور بقصته البسيطة، ولما حصل الفيلم على العروض النقدية الجيدة التي نالها، ولا على إعجاب الجمهور الذي تزايد بعد عرضه في عدد محدود من دور العرض، ولما لقي الفيلم إقبالاً جماهيرياً أكثر مما حققه فيلمه السابق (التواضع The Humbling) الذي جمعه مع المخرج باري ليفينسون، عن رواية للكاتب الأميركي الكبير فيليب روث، وأدى فيه باتشينو شخصية ممثل مسرحي يعاني من تقدم العمر وتقلب الزمان، والذي سأحدثك عنه في تدوينة لاحقة، وسأنشر الحوار الذي أجريته مع مخرجه المخضرم والذي كنت قد أجريته معه خلال عرضه في مهرجان مجلة (ذي نيويوركر) العريقة.

سيضحكك هذا الفيلم، وقد يبكيك أحياناً، فقط اترك نفسك لتتورط معه، وحينها ربما تجد فيه نموذجاً إضافياً على براعة الفنانين الموهوبين في تحويل فسيخ الواقع إلى شَربات

كاتب الفيلم ومخرجه هو دان فوجيلمان، وهي التجربة الإخراجية الأولى له، بعد سلسلة من الأعمال الكوميدية الناجحة التي ألفها، ومن أشهرها فيلم (crazy, stupid,love) وفيلم الرسوم المتحركة الناجح (cars) وأتصور أنه قدم في الفيلم بداية إخراجية قوية وملفتة، منذ أول مشهد اختار أن  تدور أحداثه في سبعينات القرن الماضي، يظهر فيه شاب يعشق كتابة وتلحين الأغاني، وهو يتحدث في حوار صحفي عن أحلامه الفنية وتصوراته للأغنية كما يحبها، ويتحدث عن بطله المفضل جون لينون وتأثيره عليه، وبعد ذلك الحوار ينقلنا الفيلم إلى لقطات مقربة تظهر لنا رجلاً عجوزاً يحاول شد كرشه المتضخم بكورسيه، ويقوم بالتأكد من صبغ شعره الأبيض جيدا، ويكمل ارتداء ملابسه واكسسواراته، لنرى مع اتساع الكادر أن هذا هو بطل فيلمنا داني كولينز بعد أربعين عاماً من ذلك اللقاء، الذي أعقبه فشل ألبوم غنائي، قرر فيه أن يصنع أغانيه كما يحبها، دون أن يلقي اعتباراً لرغبات المنتجين وما يتصورون أنه ذوق الجمهور، ولأن فشل الألبوم جاء صدمة حادة له، فقد قرر أن يستجيب للضغوط، ويصنع الغناء الذي يتصور المنتجون أنه سيعجب الناس، وحين تنجح أغانيه الجديدة، يقرر أن يسلم نفسه لرغبات الآخرين، وها نحن نراه بعد أربعين عاماً من النجاح التجاري، مع زوجة فاتنة الجمال تبلغ نصف عمره، في ظل ثراء فاحش لم يكن سيحصل عليه لو دام فشله، ومع جمهور لا زال وفياً له، لكننا برغم ذلك نشعر أنه فاقد للروح، ولا يشعر بإقبال على كل ما حوله، ولذلك يهرب إلى إدمان الكوكايين من الخواء المقبض الذي يشعر به وسط كل ذلك الصخب المحيط به.

لكن كل ذلك ينقلب رأسا على عقب، حين يقوم مدير أعماله ورفيق مشواره، في عيد ميلاده، بمنحه هدية شديدة الخصوصية، هي عبارة عن رسالة مكتوبة بخط يد بطله القديم جون لينون، كان قد أرسلها زمان إلى المجلة التي نشرت حواره القديم، لكن رئيس تحرير المجلة لم ينشرها، وقرر أن يحتفظ بها في مقتنياته الشخصية، ليتم بيعها بعد ذلك بسنوات، وتنتقل من يد إلى يد، حتى تعرض على شبكة الإنترنت في أحد المزادات، فتستقر في يد مدير أعماله، الذي قرر أن يفاجئ صديقه القديم برسالة جون لينون، وبالمناسبة هذه هي الواقعة الحقيقية التي يستند عليها الفيلم "نوعا ما"، والتي سبق أن حدثت بالفعل مع ستيف تيلستون مغني الفولك البريطاني، الذي تحدث قبل ثلاثين عاما في حوار صحفي عن تأثره بملهمه جون لينون، وعن خوفه من أن تؤثر عليه الشهرة والمال فتجعله يؤدي فنا لا يحبه، فأرسل إليه جون رسالة لم تصله إلا بعد ثلاثين عاماً، وقام بوضع رقم تليفونه في الرسالة لكي يتصل به، وهو ما لم يحدث أبدا، لأن جون لينون تعرض بعدها للإغتيال، فقرر شخص حقير مجهول الهوية في إدارة المجلة، أن يستغل الفرصة مادياً ويقوم ببيع الرسالة، فلم يعلم بها رئيس تحرير المجلة وبالتالي لم تصل إلى من تستحق الوصول إليه.

الفارق هنا بين بطل الفيلم داني كولينز، وبين بطل الواقعة الحقيقي الملهم لقصة الفيلم، أن الأخير لم ينجب ولداً ظل بعيدا عنه طيلة حياته، كما أنه لم يؤثر النجاح بشكل سلبي على مشواره، فقد بقي مخلصا لموسيقى الفولك التي أحبها، وظل طيلة عمره يؤديها، حتى حصل على جائزة كبيرة من البي بي سي عام 2012 عن أعماله المتميزة فيها، لذلك حرص الفيلم على استخدام تعبير "نوعا ما"، ليؤكد أن التفاصيل التي يقدمها الفيلم عن بطله داني كولينز، مختلفة عن الطريقة التي أثرت بها الرسالة الحقيقية لجون لينون على المغني البريطاني، الذي تظهره تيترات الفيلم الختامية وهو يحمل الرسالة الأصلية بيده.

لكن الرسالة التي صنعها الفيلم من أجل بطله دان كولينز، وتم تقليد خط لينون فيها، استوحت أفكار جون لينون الموجودة في الرسالة الأصلية، فجاءت ملهمة واستثنائية، فقد نصح فيها المغني الشاب داني "بأن يكون وفياً لنفسه، وأن يدرك أن المال والشهرة لا يفسدان الفنان، بقدر ما تفسده خياراته الشخصية والرذائل التي قد تؤدي إلى سقوطه"، لتكون تلك الرسالة الملهمة التي تأخرت في الوصول، سبباً في اتخاذ داني لقرارات حاسمة بضرورة تغيير حياته تغييراً شاملاً، فيكشف لزوجته أنه كان يشك طول الوقت أنها تخونه، ويتمنى لها السعادة في حياتها مع الشاب الذي تحبه، وأنه لن يدخل معها في أي نزاعات مادية كما تتصور، لأنه سيترك كل شيئ خلفه، وسيحتفظ فقط بالبيانو الذي تعود أن يكتب عليه أغانيه، وسيذهب للإقامة في فندق في إحدى مناطق ولاية نيوجرسي، حيث لا يوجد معه شيئ من حياته القديمة، سوى البيانو، والرغبة في أن يستعيد ذاته التي فقدها منذ سنين.

يدرك صديقه ومدير أعماله أنه ارتكب كارثة، بإظهار تلك الرسالة التي كان يظن أنها ستسعد صديقه وتحمسه للمزيد من العمل، فإذا بها تدفعه إلى أن يطلب الغاء جولة فنية كبيرة، كانت ستجلب لهما الكثير من الأموال، ولا ينتظر أخذ رأي صديقه في هذا القرار، بل يترك له عنوان الفندق الصغير الواقع في ولاية نيوجرسي على مقربة من مدينة نيويورك، وحين يحاول صديقه فهم لماذا اختار هذا الفندق بالذات في هذه الولاية التي يكرهها صديقه، يعرف أخيراً أن السبب هو رغبة داني، في الإقتراب من محل سكن ابنه الذي لم يره منذ سنوات طويلة، والذي نتج عن علاقة عاطفية عابرة مع احدى المعجبات.

يبدأ الفيلم منذ هذه النقطة في غزل خيوط علاقات متعددة بين داني وكل من إبنه الغاضب المأزوم الذي يعاني من ضغوط الحياة، وزوجة ابنه التي تدرك كم يكره زوجها أباه، وحفيدته الطفلة شديدة الحيوية والتي لا تعرف عنه شيئا، سوى أن أباها كلما رآه في التلفزيون طلب إغلاقه بعصبية، ومديرة الفندق الستينية الجميلة التي تتسلل إلى روحه ووجدانه شيئا فشيئا، وتتشابك كل هذه الخطوط لنرى كيف يعاود من خلالها داني بحثه عن ذاته، وكيف يعيد اكتشاف تصوراته للفن والغناء التي خلفها ورائه قديما، ولا يحدث ذلك التغيير بشكل تصاعدي خطي، فنحن نراه  برغم كل ما اتخذه من قرارات، يجبن عن المضي قدما في تغيير حياته أحيانا، ثم يتشجع أحيانا أخرى، ونرى أيضاً أن مهمته في استعادة ابنه لم تكن سهلة، فهو ينجح بصعوبة بالغة في إقناع ابنه بأن يجعله يقترب من أسرته ليوم واحد، وبعد حدوث عدة تطورات تتوثق العلاقة بين الجد والحفيدة رغماً عن الابن، ثم تتعقد العلاقة ليبتعد من جديد ابتعادا يبدو أنه نهائي وحاسم.

وفي نهاية الفيلم وبعد عدد من المنعطفات الدرامية المشغولة بحنية ولطف، تتحول علاقة الأبوة إلى علاقة صداقة في مشهد النهاية، الذي أظن أنه واحد من أعذب المشاهد التي قدمت في هذه النوعية من الأفلام، ليتوج باتشينو بأدائه في ذلك المشهد تأكيده من خلال هذا الفيلم، أنه أبعد ما يكون عن هم نضوب الموهبة الذي كان يشغل بطل فيلمه السابق، وأنه إذا وجد شخصية ثرية إنسانياً ودرامياً، يستطيع أن يقول من خلالها الكثير، كما أثبت بوبي كانيفالي في أدائه أنه ممثل عريض الموهبة، وأن توهجه الذي وصل إلى ذروته في الموسم الرابع من مسلسل (Boardwalk Empire) ثم انطفأ قليلا، لم يكن وراءه ضعف موهبته، بل عدم حصوله على أدوار تفجر فيه مناطق مختلفة عن منطقة الشخصيات الشريرة والإجرامية، وأثبت مخرج الفيلم دان فوجيلمان أن قراره بالانتقال من مقعد المؤلف إلى مقعد المخرج، كان مغامرة محسوبة، ربما كانت بداية لمشوار إخراجي متميز.

سيضحكك هذا الفيلم، وقد يبكيك أحياناً، فقط اترك نفسك لتتورط معه، وحينها ربما تجد فيه نموذجاً إضافياً على براعة الفنانين الموهوبين في تحويل فسيخ الواقع إلى شَربات.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.