انتهى دفتر!ِ

28 اغسطس 2022
+ الخط -

كتبت هذه الكلمات في الصفحة الأخيرة من دفتر كتاباتي، عمره عامان، كنت فيهما خارج الزمن، عامان من المقالات والقصص والخواطر، لم أكتب يوما التاريخ، ولا كنت أعرف في أي عام أنا، كنت أكتب وأكتب ولا أفكر في شيء غير أنني عندما أكتب، أدرك شيئا واحدا هو أنني أزيح ما في قلبي وأسكبه على الورق.

أخذت أقلب ما كتبت، وجدت ضعفي وقوتي، وجدت صفحات مزقت بين شتاتي، وجدت خربشات أطفالي، ووجدت حيرتي وما يبوح به صمتي، وجدت مملكتي وكياني، ووجدت محاولات ضعيفة للاتصال بالواقع، وجدت محاولات لرسم المستقبل، وجدت امرأة تتخبط بين وحدة روحها وانشغالات حياتها، وجدت فيه الإعجاب والخجل من مسامات الأنوثة، وجدت فيه الهروب، الابتسامة من تجارب عزفت عن خوضها لأن نهايتها معروفة، ووجدت في دفتري قوة نسيت أنها تقطن ها هنا، وجدت أني كنت أكتب عن الجمال دون أن أدري، ووجدت أنني ضقت ذرعا بسخف كيد النساء وبأس الرجال، ما عدت أحتمل المزيد منه، فقد خبرته بأشكاله.

وأجمل ما وجدت فيه الحب، ولا أجد نفسي مجبرة للشرح عن الحب فيه كثيرا، هو الحب الحب الذي يغمر حياتك ويجعلها أجمل وأطهر وأنقى.

الآن أصبح عندي دفتر أحبه كأول إنجاز لي، انتهى دفتر وسأبدأ الأن دفترا أخر

عامان كانا كتجربة الطفل في المشي، أعوام سبقته من الصبر والمر حتى مضت سنوات وكأن الحياة جمدتها في دفتر، لقد انتهى أول دفتر من كتابتي لا أرغب بضياعه ولا أود تمزيقه ولا التخلص منه بأي شكل، إنه قطعة من روحي، جزء مني ليته يبقى معي للأبد، ألمسه بعناية وكلما رأيته ابتسم، فيه إصراري وشغفي، إنه أجمل ما كتبت ورسمت، فيه دعواتي وإجابتها، إنه بداية حظي.

منذ نعومة أظفاري، كان لكل مرحلة من حياتي دفتر، أكتب فيه كل ما أمر به، وأكتب التفاصيل فلا أثق بالصور ولا الذاكرة، ولم تكن في ذلك الوقت منصات الكتابة، فكنت أكتب وأكتب والذكريات السعيدة أكتبها بأدق ملامحها، إن قلبي كان غضا ورقيقا يفيض بأقل نسمة هواء تعبث به، تؤلمه وتسعده، ويدون انفعالاته بقبلات القلم على الورقة، وبعد أعوام أكبر ويزيد وعيي، فأخجل من رقة ورهافة ما كتبت ثم أعود وأمزق دفتري الذي كنت أنوي الاحتفاظ به للأبد، مزقت ثلاثة دفاتر وأحرقت مئات الأوراق والصور، ولكنها بقيت في حياتي لم تغادرها، فعلمت نفسي أن لا أخجل من ضعفي وخطئي فهو مصدر قوتي ووعي، وأن أفكر كثيرا قبل كتابة ما يخطه قلبي.

عندما أمسكت بدفتري هذا كنت أريد منه أن يكون خطوة ثابتة لا تتراجع، لا أذكر بالضبط ما كنت أفكر به قبل عامين، حين أمسكت أول مرة به وبدأت أكتب، ولكنني أكتب الآن ما أراه أمامي، أرى عمري وأفكاري ونضجي، أرى ثباتا وخيارات مميزة، قلب أقوى يعرف نفسه، ولا يهمه الشرح والتبرير.

الكتابة على دفتر مهارة تتطور بالمثابرة عليها، اصقلها بالقراءة حتى تصبح لك لغة تجيد التعبير بها، كلما قرأت أكثر تطورت قدرتك على وصف أدق المواقف بكلمات، تدوين يومياتك هو الخطوة الأولى، اجعلها عادة، مزقها أو ارمها أو احتفظ بها في مكان خاص بك، اكتب بالرموز إذا خفت أن يقرأها أحد، ولكن لا تتوقف عن الكتابة، ففي النهاية سيصبح كل دفتر تبدأه تجربة نهايتها إنجاز يسعدك، وسيصبح دفترك الصديق الذي لا تخشى منه مهما تقلبت الظروف، دون ذكرياتك وخططك المستقبلية وجدولك اليومي ستجد أن الحياة صارت أمتع ومنظمة أكثر.

لقد بدأت كتابة يومياتي وأنا في العاشرة وكنت أكتب ببساطة وعفوية، وكلما كبرت أنظر لها بسذاجة فأمزقها، ثم أدركت في عمر أكبر أن هذه التجارب لا يهم بقاء تفاصيلها فبعض التفاصيل من الخير نسيانها، ولكن ما يهم هو بقاء أثر التجربة وهو ما تعلمته منها، ثم أصبحت أكتب بإيجاز ثم بالرمز والصور التعبيرية، والآن أصبح عندي دفتر أحبه كأول إنجاز لي، انتهى دفتر وسأبدأ الآن دفترا آخر، أرجو الله أن يكون ما أخطه فيه سعادة وتوفيقا.

دلالات
A70A6B05-880A-46F3-93C3-09859D5CFC65
إيناس عبد الفتاح
صيدلانية كاتبة مقالات وقصص على مواقع التواصل الاجتماعي، نرتقي بالفكر ونكتب لنصل إلى العقول وشيء من العاطفة