النظام العربي لحقوق الإنسان

20 ديسمبر 2024
+ الخط -

لطالما كانت مسألة حقوق الإنسان في المنطقة العربية مسألة مثيرة للجدل والانتقادات، في ظلّ الانتهاكات المتواصلة عبر العقود للحريّات الأساسية، والتي قد يرى البعض أنها أصبحت انتهاكات مُقنّنة في ظلّ رسوخ أنظمة حكمٍ شمولية. فجاء النظام العربي لحقوق الإنسان محاولة من جامعة الدول العربية لإرساء منظومة إقليمية عربية تُعنى بحماية حقوق الإنسان في المنطقة، وذلك في محاولة منها لمجاراة تسابق المجتمع الدولي لإرساء منظومة دولية تهتم بحماية حقوق الإنسان، وانتشار أنظمة إقليمية تُعنى بحقوق الإنسان في أفريقيا وأوروبا وصولًا إلى القارة الأميركية.

الميثاق العربي، بين المبادئ والتطلعات

يُعدّ الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي صادقت عليه جامعة الدول العربية عام 1994 في نسخته الأولى، هو الوثيقة المؤسّسة لهذا النظام، إذ يضم مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية، المنصوص عليها في العديد من المعاهدات الدولية مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والاقتصادية. فجاء هذا الميثاق العربي مؤكّدًا على الحقّ في المساواة، والحقّ في الحياة، وحرية التعبير، وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية. ونصّ كذلك على مجموعةٍ من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل الحقّ في العمل، وحظر عمالة الأطفال، علاوة على الحقّ في الضمان الاجتماعي، والحقّ في التعليم والصحة. فقام هذا الميثاق بخلق مجموعة من الالتزامات على عاتق الدول الأطراف المُصادقة عليه، بحيث تلتزم بحماية تلك الحقوق المنصوص عليها وتنفيذها من خلال اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تكفل تحقيق مقاصد هذا الميثاق في نسخته المنقّحة لسنة 2008، المتمثّلة في حماية وتعزيز حقوق الإنسان، استنادًا إلى القيم الإنسانية المشتركة والمبادئ المُستمدّة من الشريعة الإسلامية، ومواجهة الصهيونية في سياق دعم القضية الفلسطينية، والتشديد على أهمية التضامن العربي لتعزيز حقوق الإنسان والتصدي للتحديات الإقليمية التي تواجه الدول الأعضاء. غير أنّ هذا النظام، رغم المبادئ الطموحة التي ينطلق منها، تعتريه العديد من النقائص والتحديات التي من شأنها أن تُعيق تحقيق أهدافه المعلنة. يقدّم الميثاق رؤية عربية لحقوق الإنسان تأخذ بعين الاعتبار السياق السياسي، بما في ذلك مرحلة ما بعد الاستعمار، والسياق الثقافي، مع التأكيد على الالتزام بالكونية.

إشكاليات النظام العربي لحقوق الانسان

على الرغم من تضمّن الميثاق عناصر تقدمية، حيث يشمل جميع أنواع الحقوق، بما في ذلك حقوق الأقليات وحقّ التنمية. ومع ذلك، فإنه يحتوي أيضًا على بنود إشكالية، من بينها البند المتعلّق بالمساواة بين الرجال والنساء ضمن إطار الشريعة الإسلامية وهو حقيقة معيار واسع وفضفاض، فكلّ دولةٍ عربية لديها منطلق فقهي خاص بها تفسّر به النصوص الشرعية، فالذي تراه السياسة التشريعية لدولة عربية ما متوافقًا مع الشريعة الإسلامية قد لا تراه دولة عربية أخرى كذلك، الأمر الذي يخلق نوعًا من الاضطراب في تفسير ما إذا كانت بعض القوانين تخلّ بمبدأ المساواة بين الجنسين أم لا، أي أنّها بالتالي تشكّل خرقًا لالتزام الدول الأطراف في هذا البند، وفرض عقوبة الإعدام على القُصَّر إذا نصّت عليها القوانين الوطنية وهو أمر يتعارض مع المواثيق الدولية في هذا الشأن والمتعلّقة بحقوق الطفل، إذ تمنع التشريعات الدولية تطبيق عقوبة الإعدام على القُصّر دون الثامنة عشرة، وقد وقع بالفعل تنفيذ العديد من أحكام الإعدام على قُصّر في بعض الدول العربية، وعدم حظر العقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وتقييد بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بحيث تمّ قصرها على المواطنين فقط ،الأمر الذي قد يخلق تمييز بين المواطنين وغيرهم من الأجانب، وفرض قيود واسعة على حرية الفكر والدين.

ما تراه السياسة التشريعية لدولة عربية ما متوافقًا مع الشريعة الإسلامية قد لا تراه دولة عربية أخرى كذلك

ولقد أسفر هذا الميثاق كذلك عن إنشاء لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان المكوّنة من سبعة أعضاء باعتبارها الهيئة المعنية بمراقبة تنفيذ أحكامه. ومع ذلك، أثارت تركيبة اللجنة وطريقة عملها انتقادات بسبب محدودية استقلالية أعضائها، وانعدام المساواة في التمثيل بين الجنسين. كما أنّ تفويض اللجنة محدود؛ فلا يمكنها تلقي شكاوى فردية، حيث تقتصر مهمتها على مراجعة تقارير الدول الأطراف، وذلك على عكس ما يسمح به العهد الدولي لحقوق الإنسان، حيث يمكن للأفراد تقديم شكاوى أمام لجنة حقوق الإنسان ضدّ دولهم في حال انتهاكها لالتزاماتها المقرّرة في العهد الدولي. وبالتالي، لا يمكن اعتبار وجود هذه اللجنة فعالاً، خصوصاً في ظلّ الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في العالم العربي .إذ لم نرَ أي دور حقيقي للجنة في محاسبة الدول المخالفة، سواء في فترة الربيع العربي أو بعده. فقد غابت تماماً عن معالجة الأزمات الإنسانية في العالم العربي مثل أزمة السودان، والأزمة الإنسانية في اليمن، أو الصراعات في سورية والعراق. 

المحكمة العربية لحقوق الإنسان: خطوة نحو إصلاح النظام الإقليمي 

في إطار سعي الدول العربية لمواكبة الأنظمة الدولية والإقليمية الأخرى مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أو المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، تمّت المصادقة في عام 2008 على النسخة المنقّحة من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، والذي نصّ على إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان بما هي آلية لتفعيل ما ورد في الميثاق العربي من حقوق والتزامات واقعة على عاتق الدول الأطراف، فجاء مقترح إنشاء المحكمة خطوة مهمّة من أجل تعزيز نظام حقوق الإنسان في العالم العربي، خاصّة في سياق غياب المحاسبة لعدد من الحكومات في المنطقة على الرغم من الانتهاكاتِ الجسيمة التي ترتكبها. فوجود هذه المحكمة من شأنه توفير فرصة للمحاسبة وتحقيق العدالة، وهو أمر غائب عن الإقليم بشكل كبير. وبالرغم من مرور أكثر من عقد منذ أن تمّ تحديد الحقوق الأساسية في الميثاق العربي لحقوق الإنسان، مثل الحقّ في الحياة والحرية والحماية من التعذيب، والمساواة أمام القانون، بقي هذا الميثاق في الغالب وثيقة بلا تطبيق فعلي نتيجة غياب محكمة إقليمية قوية تفسّر وتنفّذ حقوق الإنسان الواردة فيه.

المحكمة العربية لحقوق الإنسان عاجزة عن تقديم العدالة وتساهم في تعزيز استمرار الإفلات من العقاب في المنطقة

ومع ذلك، فإنّ النظام الأساسي للمحكمة العربية، الذي يعاني من العديد من العيوب الجوهرية، يحول دون تحقيق العدالة والمحاسبة. فعلى الرغم من أنّ المحكمة كان من المُفترض أن تسهم في إنفاذ الحقوق، فإنّ افتقارها للاستقلالية والمهنية يجعل من غير المحتمل أن تقوم بدورها بشكلٍ فعال، بدلاً من أن تكون مؤسسة قادرة على محاسبة الحكومات المُسيئة، إذ قد تبدو للبعض مجرّد واجهة تحمي الدول من المحاسبة. ومما يزيد من ضعف هذه المحكمة هو السماح فقط للدول بتقديم الشكاوى ضدّ بعضها البعض وبالتالي حرمان الأفراد من رفع دعاوى أمام هذه المحكمة ومقاضاة دولهم أمامها، وهو ما يتعارض مع آلية المحاكم الإقليمية الأخرى مثل المحكمة الأوروبية أو المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان، حيث يتمكّن الأفراد والمنظمات غير الحكومية من تقديم شكاوى، الأمر الذي يجعل هذه المحكمة العربية عاجزة عن تقديم العدالة وتساهم في تعزيز استمرار الإفلات من العقاب في المنطقة.