النسويّة.. بوحٌ قبل كلّ شيء
علينا أن نُنصت للصوتِ الذي اقتضاه واقعُ الضحيّة، لا للصوت النسويّ من حيث إنّه حركةٌ راديكاليّة اجتماعيّة، مستوردةٌ من صناعة الغرب، والذي يستلزمُ منّا عراكًا في كلّ صولةٍ وجولةٍ، مؤيّدًا ومعارضًا على الدوام. لذلك سأطرحُ السؤال الفاصل؛ ماذا إن كانت النسويّةُ العربيّة وليدة حتميّة لبطشِ الأنظمة الدينيّة والاجتماعيّة التي مارست القمعَ، ورسمت خطوطًا حمراءً قيّدت وجود المرأة وحوّلتها إلى أداةٍ ومرتع يلهو به الرجل (صاحبُ السلطة) في أوطانِنا؟
في مكتبتي، وأنا أُقلّبُ صفحات التاريخ على أطلالِ السرديّات الأدبيّة في إثر الحرب العالميّة الثانيّة، لاح لي الصوتُ النسائيّ كظاهرةٍ حيّة، واكبت صريرَ أقلامِ الرواة لتأريخ المشهد. ولا يخفى على أحدٍ ّأن الحربَ قد تجاوزت مداها من الخراب الجسيم الذي لا ينجلي إلا بتوالي السنين وتوحّد السواعد، ثُم اختلاس صفوِ الأنوار فوق شروخِ الحزن الذي عنكب شباكَه على الصدورِ بفعل أغوال وحشيّة الإنسان... هنا امتدّت يديّ مُتناولةً كتاب "ليس للحربِ وجهٌ أنثويّ" للكاتبة والصحافيّة البيلاروسِية سفيتلانا أليكسييفيتش، إذ جعلت منه نصيبها وأُخريات، في التمرّد على الصّمت الذي اعتيد من النساء في كلّ العصور والأوقات، حيث تحدّثت الكاتبة ومليون امرأةٍ في صفوف الجيوش المشاركة، اللاتي قاتلنّ يدًا بيد مع الرجال، واضطلعن بمهمّاتٍ شديدات الوطأة على رتابة أيامهنّ، وقد شرعت تُخلي للنساء مُقامًا في المتون القصصيّة ولسانًا ينبضُ بوحًا يتقرّى أحوالهنّ، وما تفطّر عنها من صدماتٍ فريدةٍ ومواجهاتٍ لم يدركنّ نسقها إلا بخوضِ غمار واقع الحرب وتقبّله، حيث التمست الكاتبة السلوى في الشكوى، ولا عذاب إلا في غيابِ واستلاب المكلوم حقّه المشروع في تشييع سلواهُ إلى مثواه الأخير، حيث الكلمة وعاءٌ تنصّب فيه مشاهد عينيهِ ومجاليّ روحه.
ولأنّ التاريخَ يُكتب أبدًا بمدادِ تصوّرات وأحاسيس وصوت الرجل الذي يكلفه به العالمُ أجمع واجبًا لا مفرّ من أدائِه ليجدَ من يصغي ويشيدُ، فإنّ كلّ ما يُكتب بعدئذٍ لا يكون إلا صدى لذلك القلم، وتبقى المرأةُ الوجه الغائب المُمعن بالصمت، خاصة في كلّ ما يتصلُ بثالوث العلم والقُوّة والحرب. ولأجل هذا طفقت سفيتلانا في كتابها هذا تُحطّم ذلك الصمت وتسبرُ أغوار ذاكرة النساء أمام القُرّاء الذين هم أسرى أقلام الرجال والشاهدين على الوقائع بمنظارهم، وشرعت تروي لنا دورَ النساء في الحرب، وما يمتلكن من لونٍ خاص ومشاعر فريدة وتاريخ فياضٍ وذكرياتٍ مُغايرة، فضلًا عن مهامهنّ المُتضاربة حتى ائتلفنّ مع المهن الحربيّة كرهًا؛ فترى الواحدةَ منهنّ أمًّا وقناصة في مقدّمة الجبهات، لكن غُيب صوتهنّ وانصهر في أُحاديّة الرجل حتى لتكاد الحرب تكون حرب الرجالِ حصريًّا.
جرى تغييب صوت المرأة وانصهر في أُحاديّة الرجل حتى لتكاد الحرب تكون هي حرب الرجالِ فقط
وعلى غرار سفيتلانا ومثيلاتها اللواتي لُذن بالصمت أربعين عامًا قبل أن يُبعث الكتاب من مهده، صمتتْ نساءُ عالمنا العربيّ المأزوم أزمانًا طويلةً، صيغت في غضونها حدودَ وجودهنّ وحقوقهنّ وفق رغبات الرجل على اختلافِ مسميّاته، كالوليّ وشيخ الدين والسياسيّ، وما يسنده الفكر الاجتماعيّ والمعتقد الدينيّ من الخرافة والعُرف السائد، وقد هبّ كلّ واحدٍ منهم يرضخُ لاعتباطاته وفوقيّته ومِزاجه، إذ لم يكن للمرأة سوى الصمت يبدّدُ هُويتها وخصوصيّتها في التّعريف بنفسها وأنينها واحتياجها وما ترومه بناءً على تجاربها الذاتيّة المحضة؛ فالتجربةُ وحدها من تحكمُ الشعارَ والفتوى والقانون في أحايين كثيرة. على أنّ استكانة المرأة أمام قوى القهر، جاءت لتثبتَ للباحثين الاستِلاب العقائديّ المفروض عليها بفعل تواتره أعوامًا مديدةً حتى أضحى ملمحًا متأصلًا؛ إذ غدا السوادُ الأعظم من النساء يتماشى مع الوضعيّة القائمة، يقاومُ تحرره ويؤمنُ بدونيته ويبخّس قدرته الكليّة، وذلك ما ترتضيه مفاهيمُ القوامة والوصاية من ترسيخ التبعيّة لسيادة الرجلِ ذي الحظوة.
ومنذ بدأت النسويةُ العربيّة بارتقاء الظهور حديثًا على يد ثُلة قليلة كبوحٍ أوليّ جسورٍ، لم يفتأ الرجل تنكيس أعلامها وأهدافها مستعينًا بشعاراتٍ مُقدّسة يخشى المجتمعُ المساس بها كتدميرِ الأسرة وتحقيق المساواة الجنسيّة واستغلال المرأة لدعمِ الرأسماليّة الغربيّة، مُتعاميًا أنّ اختزال القضيّة على حساب بقيّة أبعادِها هو تضييقٌ لها من حيث أنّها أكثر امتدادًا وسعة، دون وضعِ بدائلٍ للحركة كونها محفلًا للشرّ والهلاك، ومن ثم تجاهل الكيان النسائيّ في تعاطيه مع ملكيته ليشارك العالم ما يلازمه من حسراتٍ وما يكابده من ملاحم وجوديّة قاسية، إن ذلك الصوت النسائيّ الصاعد كسربِ حمامٍ جعل يناظرُ زُرقة الأفق ونسائم الشفق ليجدَ نفسه ثانيةً في أقفاصِ الغرق.
إنّ المرأةَ العربيّة اتخذت من النسويّة ملاذًا وتجمعًا كحل أخير أمام انعدامِ البدائل واستشراء الجور؛ ليوحّد النساء فوق مِنبره، فيغدو الصوت عاليًا يدافعُ عن كائنٍ له غيريته وأصالته وإمكانيّة تقرير مصيره الوجوديّ، وينشُد باسم كلّ أنثى تُعنّف وتُدان وتُزدرى وتُقتل وتُهدّد وتُسلب حقّ منح الجنسيّة لأبنائها أو الوصاية عليهم، ويعيدُ لها كيانها وهُويّتها الخاصة وحقّها المشروع في الحياة أمام الفتاوي الدينيّة والقوانين الاجتماعيّة الجائرة التي جعلت من نفسها سلاحًا يُشهره كلُّ ذي مصلحة ليقولبَ المرأة قالبًا يُرضي أهواءه وتقاليده البالية.
لذلك فحقوقُ الإنسان تستوجبُ تقدير الصوت النسويّ من حيث "إنه بوحٌ قبل كل شيءٍ"، يزيل الستارَ عن ندوبٍ وجراح لازمت المرأة على تنوّعِ جنسيتها ومكانها، في حين أنّ امتلاك الرجل "جوازًا دبلوماسيًّا بمباركةٍ اجتماعيّة ودينيّة" يمكّنه من إبداء الرأي في كلّ ما دقّ وجلّ في مساحةٍ "نسائيةٍ" ليست له وإنكاره بُنود ذلك البوحِ وطرحه ككلٍّ منزلقٌ كبير للتعصّب الفكريّ، وما تحمله ثناياه من ضروبِ السطوة والاضطهادِ تتجرّعه المرأة خُفية، في مقابل أن تتسع هُوّة العداء والتطرّف النسويّ الحاد في ردِّة فعلٍ ضبابيّة لرفضِ التفاوض وتشريع الحقوقِ الواجبة ثم حماية المرأة من أوجه الظلم، وهذا يوحي بأنّ النسويّة، وإن كانت تندرجُ في إطار فكرةٍ ثوريّة، فإنّه لا يمكن رفضها أو قبولها تمامًا بشكلٍ صرفٍ، لكنّ من المُؤكد أنهّا مادةّ قابلة للمُناظرة دون خصامٍ وتعنّت أو مناهضةٍ شاملة.