الموت في إدلب

17 مارس 2020
+ الخط -
كل مرة أقصد فيها عنواناً ألمانياً جديداً أضيع وأهيم على وجهي في الجبال مثل العاشق الذي فقد حبيبته، الألمان لا يعرفون أحياءهم ولا جيرانهم، فكل امرئ بما يكسب رهين، يقول الألماني عند سؤاله عن العنوان من غير مبالاة: "كاين آنونغ" keine Ahnung ويمضي لشأنه.

وكانت زيغريد هونكه قد كتبت كتاباً عنوانه "شمس العرب تسطع على الغرب"، ثم وجدتُ أن العنوان الأصلي هو "شمس الله تسطع على الغرب" ولم أعرف سبب هذه الخيانة في الترجمة. رصدت السيدة هونكه ألف كلمة عربية غزت اللغة الألمانية، أفاء الله بها على اللغة الألمانية من غير خيل ولا ركاب، ووجدتُ ألفاظاً أخرى لم تهتد إليها زيغريد هونكه رحمها الله، وكل مرة أنوي جمعها وأنسى، وكان الإنسان نسياً، ومن هذه الألفاظ: كاين، وهي من فعل الكون: والبدو في القرى ما زالوا يقولون: متعب كاين بالبيت.


كل امرئ هنا يستهدي بإسطرلاب الملاحة البرية في جهازه الهاتفي، فهو أعمى وقد كان بصيراً، وأنا لا أجيد الاسترشاد بعلامات نجمة الإسطرلاب الحمراء. في السيارة السريعة أضلّ، ومشياً لا تستجيب نجمة القمر الصناعي للحركة البطيئة، والدراجة أهدى سبيلاً.

عادة ما أستعين بنجمي نوري، أتصل به، فإن كان خالياً جاء طائراً. بداية لا بد من القول إنَّ أجمل لوحة رأيتها في حياتي كلها ليست للفنان البائس دافنشي، ولا للفنان التعيس فان جوخ ولا للفنان دالي، هي لوحة السماء، وكنت مثل كل أهل الجزيرة ننام فوق أسطح الدور، وأنام بعد أن تسكر عيناي من خمر النجوم حتى الثمالة.

نصحني صديقي الفنان حسن إدلبي بمشاهدة فيلم "الموت في البندقية"، وعجبت من أني لا أعرف الفيلم، فقد شاهدت عيون السينما العالمية، وقائمة أفلامي لا توافق قوائم الأفلام التي تثني عليها صفحات السينما وتوصي بها، ورأيت الفيلم وهو مأخوذ عن قصة لتوماس مان، ويروي قصة كاتب، وقد استبدل به صانعو الفيلم موسيقياً، يقصد البندقية للانتجاع، فيجد روحه قد تمثلت في صبي شديد الجمال، وأوتي شطراً من الحسن. تقول صفحات النقد عن الفيلم هذا الكلام تعريفاً وتوصيفاً:

"الفيلم يروي قصة سلطان الجمال واستبداده بروح الإنسان حتى يهوي به إلى مهاوي الردى الروحي والاضطراب وفقدان الرشد ثم الهلاك، جمال الفتى الذي يقتل الكاتب ويرديه قتيلاً يرمز إلى انفلات طاقاته المكبوتة وقوى نفسه الجامحة وإلى ألمانيا التي انفلتت فيها قوى البورجوازية المسعورة، وهي على قيد شبر من الهاوية". لم أجد الفيلم مثيراً، وجاهدت لمشاهدته، وهي قصة تقرأ ولا ترى، وتذكرت قصة النبي يوسف عليه السلام، درّة القصص وأحسنها، وتذكرت وجوهها الكريستالية، والفراغات التي يمكن أن يملأها الشرّاح والمفسرون.

القصة العظيمة هي التي تشبه جبل الجليد. وتذكرت كيف شرى التجار ذلك الحسن بثمن بخس، دراهم معدودة. وجعلت أقلب عنوان الفيلم فجعلته هكذا: "الموت في إدلب" وتذكرت كرم صديقي الفنان والمترجم عبد القادر عبد اللي وهو يدعوني لقضاء الإجازة في بيت له في ريف إدلب. وقال: ستتمنى أن تعيش فيه بقية عمرك، ثم أردف: وقد تتمنى أن تموت فيه.

قصدنا أنا والسانشو نوري، وهو شاب بهي الطلعة، قوي الجنان، على دراجتين مطهمتين، وكنت قد زودت دراجتي بعارضة للهاتف أتبع فيه نجمة الملاحة. بلغنا ضواحي غايتنا، ولم نجد في المدينة جداراً يريد أن ينقض، حتى نقيمه، وتهنا عن نشيدنا.

قلت لنوري: يا ضوئي، كلما لحقت بهذا الجهاز اللعين الذي يستمد عزمه من الأقمار الصناعية، فكرت في تحطيمه، انظر إلى علامة الهدى الملاحيّة، إنها تشبه قطرة دم تنزف من كوكب الأرض.

فقال لي: إنه قلب أحمر مقلوب مختوم من الأعلى وفي فؤاده قلب أبيض!

دلالات