المنسيون في الشمال

27 مايو 2023
+ الخط -

في شتاء عام 2020، وقف شابٌ سوري يُدعى محمد سعد الدين القاسم أمام خيمةٍ في الشمال، غارقة بالأمطار والوحل، أمام أطفالٍ ينتهي كونهم عند حدود المخيم، وأنشد قصيدته المشهورة "لاجئ على الباب"، وسجلها عبر هاتفٍ نقال بدون أيّ مؤثرات صوتية، بدون مونتاج أو مكياج ما قبل التصوير، مرتدياً حلّة عادية، بلحية مهملة وأسنانٍ غير متناسقة لم تشوّهها ابتسامة هوليوود. غنّى كلماتٍ بسيطة لا رمزية فيها، واصفاً حال السوريين في الشمال، ومعاتباً العرب والمسلمين والعالم أجمع، وطارقاً باب "رب الأرباب". انتشرت القصيدة على وسائل التواصل السورية كما التيار الكهربائي. كانت تصف حالهم بأقل عدد من ممكن من الكلمات، وبدون أيّ وصفةٍ إعلاميةٍ قدمها خبيرٌ ما، بصوتٍ حزين لا يشوبه أي تصنّع أو ابتذال.

يقول محمد في هذه القصيدة "لما في إدلب تنّسى بس صيح يا رب". كان ذلك بالنسبة لي بيت القصيد، وأكثر ما يمكن أن يُختصر به حال السوريين في محافظة إدلب وشمال حلب ومساحاتٍ بسيطة من ريف حماة واللاذقية، فيما بات يُعرف بالمحرّر على لسان السوريين، أو شمال غرب سورية في لغة المنظمات الإنسانية. لقد نُسي سكان هذه المنطقة بعد أن استعصى على الجميع إيجاد حل. التفتّ كلٌّ إلى همومه، وقرّروا أن يمضوا وكأن هذه المنطقة غير موجودة، بعد تحوّلها إلى عبءٍ على العالم، عاراً لا يريدون تحمّله، وذنباً لا يفضلون تذكره، بعد أن باتت فاتورة تحقيق ما يطلبه السوريون أكبر بكثير من أن يستطيع دفعها أحد، وأضحى "الأسد" قطعةً فريدة لا يمكن استبدالها في آلة عالمية معقدة. كان قرارهم لن يرحل الأسد، ويجب الحفاظ على الدولة السورية، وإغلاق منافذ الكانتون المتبقي ونسيانه وكأنه غير موجود. لم يكن نسيان السوريين في تلك الزاوية وليد الغفلة، بل النسيان كفعل متعمّد، النسيان كعقوبة.

لا يبدو أنّ عقوبة النسيان هذه مستجدة، أو وليدة الحالة السورية. لطالما عاقب المحبّون بعضهم بالهجر والنسيان، والآباء أبناءهم بقطع الصلات التي تربطهم، والأصدقاء أصدقاءهم بعدم الرد على مكالماتهم الهاتفية. يعاقب الله بالنسيان كذلك. توّعد الله عزّ وجل في سورة طه مَن تجاهل آياته بالعمى والنسيان "قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" تُنسى إذاً كأنك لم تكن، تُمحى من كل ذاكرة شكلتها صورة وجهك ونبرة صوتك، تختفي اللحظات المشتركة، وتُحذف الكلمات المتبادلة، يصبح محالاً استعادتك حتى من سلّة المحذوفات. لا يبدو أنّ أحداً يعرف بعذاب هذا الشمال، ربما يعرفون ما يكفي لعدم الإحساس بالذنب، مثل هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، الحرب السورية، الثورة سابقاً... 

يمكننا مشاهدة عقوبة النسيان في إحدى حلقات مسلسل الخيال العلمي Black Mirror عندما تكون عقوبة البطل أن يُحجب عن كلّ الناس، ويحجب الناس عنه. يعيش في ذات المدينة ويمشي في ذات الشوارع، لكن لا يمكنه رؤية أو سماع أحد، كما لا يمكن لأحد أن يتفاعل معه. قريب من الجميع بما يكفي ليدرك كم هو منسي، وكي لا تمرّ ثانية ينسى فيها أنه منسي. كان ذلك عقوبة أوصلت بطلنا إلى الجنون، الجنون الذي ينحدر إليه المنسيون في الشمال دون أن يدروا ذلك، الجنون الذي يحتاجونه في الخارج لتبرير نسيانهم ذاك.

الشمال السوري، خطيئة هذا العالم، نزوةٌ في لحظة عشق، الذنب الذي تنبهوا لفداحته بعد أن "راحت السكرة وإجت الفكرة"، الطفل الذي لم يرغب أحد بقدومه، ولم يقدر أحد على تحمّل مسؤوليته، أو إضافته إلى دفتر العائلة، وتناهى وجوده إلى العدم، ولم تعد تأبه به إلا الأزقة الخلفية أو الساحات المعتمة، أو ربّما زوجة أبٍ ربته على كرهٍ له. تركيا "مرت أبونا" كما يسخر بعض السوريين من هذه العلاقة التي أُجبر عليها من لم يكن لهم بديلٌ سوى سقف "الأسد" ليباتوا تحته. على الأقل زوجة الأب هذه تتذكر هذا الطفل، وتقدم دليل وجوده حتى بتأفّفها الدائم، وشكواها المستمرة.  

أضحى "الأسد" قطعةً فريدة لا يمكن استبدالها في آلة عالمية معقدة

 لا يغيب هذا النسيان عن سكان هذه الزاوية الشمالية، ولطالما صرّحوا بأنّ نهاية هذا التناسي لن يكون على خير، حالهم بذلك حال أم كلثوم في أغنية "بعيد عنك" عندما قالت "بخاف عليك، بخاف تنساني"، فالسيدة هنا يعتريها خوفٌ صريح من أن تُنسى من ذاكرة الحبيب، فيسقط كلّ شيءٍ في اللامعنى، وتلتحق بميادة الحناوي التي يئست من حبيبها الذي كان مكتوباً له "نعمة النسيان"، النسيان المحلّل من أيّ التزام أو شعور بالذنب تجاه المنسي. تبسيط جميل لهذه الثنائية. ناسٍ في نعمة، ومنسيٌ ذنب نسيانه أخفّ بكثير من ثقل تذكره.   

في فيلم ديزني الشهير "Coco"، يكتشف ميغويل الصغير أنّ الأموات يبقون على قيد الحياة في أرض الأموات طالما أنّ هناك أحدا ما يتذكرهم في الحياة الحقيقية، ويختفون عندما لا يبقى من يذكرهم، كما تقوله أسطورة مكسيكية شهيرة. والمنسيون في الشمال باقون بالقدر الضئيل الذي يتذكرهم به أفرادٌ في أماكن مختلفة من هذا العالم. بالقدر الذي يستمر فيه سوريون فرّوا من الأرض المنسية إلى شتى أصقاع الأرض، من تذكير العالم بتلك البقعة، رفقة أفرادٍ غريبين يفاجئونك بطلبات الصداقة على فيسبوك أو المتابعة على تويتر، مع صورهم الشخصية التي يزّينها علم الاستقلال أو علم الثورة. ربما لا يعرف هؤلاء الأغراب قيمة طلباتهم أو الإعجابات التي يضعونها على صورنا ومنشوراتنا، لكنها حقّاً لا تقدر بثمن.  

لا يكتفي المنسيون بانتظار الخارج، لكنهم يبادرون كذلك ليذكروا العالم بأنفسهم، يثيرون الضوضاء في كلّ مناسبة، يرسمون اللوحات على الجدران المهدمة في كلّ حدث عالمي، كأس العالم، حفلات توزيع جوائز الأوسكار، مسلسل صراع العروش، انتهاء الحياة السياسية لأنجيلا ميركل، مقتل جورج فلويد. لا فرق بين كلّ ذلك، المهم أن يقولوا لهم إنهم جزء من هذا العالم، وما الرايات السوداء إلا موضة ولّى زمنها. 

يكتب السوريون ليوّثقوا نسيانهم كذلك، مقالاتٍ وسيراً ذاتية، أشعاراً وروايات، يكتبون بمناسبة وبدون مناسبة، رغبة في رمي الأحمال على عاتق الكلمات، أو على عاتق سيئي الحظ من القراء. فعل ذلك الكولومبي هيكتور آباد فاسيولينسي، عندما خطّ راويةً عن أبيه الذي اُغتيل من قبل جماعات شبه عسكرية في كولومبيا "سأحارب لأنقذه من النسيان بما للكلمات من قدرة على إثارة الذكريات، لبضع سنوات أخرى على الأقل". قال ذلك في نهاية روايته التي لا عجب في أن يكون النسيان عنواناً لها. قال في اقتباسٍ آخر "انتقامي الوحيد أن أروي ما حدث". 

النسيان أصيلٌ في هذا العالم، قدرٌ عدمي وأزلي غير قابل للتغيير

لا يألو المنسيون جهداً ولا يدخرون وسيلة لإيصال ضوضائهم وجلبتهم إلى الخارج، لكن يبدو أنّ أمين معلوف كان محقاً بطريقة مريعة عندما قال "غير أنه للأسف هناك سقفٌ للضجيج لا تسمع الأصوات بعده". لا تَسمع آذان العالم الجلبة التي يضجّ بها الشمال بعد أن رفع ملثمون من جنسياتٍ متنوعة سقف الضجيج إلى مستوىً لا يمكن لأحد بلوغه، بقطعهم رؤوساً أجنبية بيضاء في حللٍ برتقالية، وسجلوا ما قاموا به بواسطة كاميراتٍ عالية الدقة، وقدموها للعالم بمهاراتٍ هوليوودية. كان ذلك السقف المرتفع للضجيج جلياً بعد زلزال السادس من شباط. لا حاجة لنا في هذا الموقف أن نعيد ما كتبناه في مقال سابق عن خيبة الأمل بردّة فعل العالم بعد الزلزال.

نسينا العالم إذاً، وفشلنا في لفت انتباهه، ولا حلّ الآن إلا اليأس والتقوقع على النفس. يلوم الكثير من المنسيين أنفسهم على هذه الوضعية، بينما يرى آخرون أنّ ما جرى كان سيحدث بصرف النظر عن أيّ شيءٍ، قمنا أو لم نقم به، فـ"آفة حارتنا النسيان" كما قال نجيب محفوظ في رواية أولاد حارتنا. فالنسيان أصيلٌ في هذا العالم، قدرٌ عدمي وأزلي غير قابل للتغيير. سوف ينتهي الجميع إلى النسيان يوماً "تحت زرقة سماءٍ لا تبالي" حتى أولئك الذين نرتجي تذكرهم لنا اليوم. ربما كان في ذلك عزاؤنا الوحيد، مثلما كان عزاء الشاعر خورخي بورخيس، الذي لا أملك إلا أن أختتم بأبياته التي يعزّي فيها نفسه المنسية:

لقد صرنا النسيان الذي سنكون.

التراب البدائي، الجاهل بنا،

التراب الذي كان آدم الأحمر،

وصار اليوم كل الرجال،

التراب الذي لن نراه.

لقد صرنا تاريخين فوق شاهد القبر،

تاريخ البداية وتاريخ النهاية.

صرنا الصندوق

التعفن الكريه، والكفن،

انتصار الموت، والنواح.

لست أنا ذلك الأحمق الذي يتشبث

برنين اسمه الساحر.

أفكر يحدوني الأمل، في ذلك الرجل

الذي لن يعرف أنني كنت على الأرض،

وأسفل زرقة سماء لا تبالي

أجد في تلك الخاطرة عزاء.

F9E7FACD-A5FE-4E3B-B07E-BF922F1FAA38
محمد جلال

كاتب سوري يكتب باسم مستعار من وحي المشاهدات في الداخل السوري... مؤلف كتاب هذه ثورتي.يقول: إن كنتم لم تضغطوا الزناد فأبدا لا يعني أنكم لم تقتلونا.

مدونات أخرى