المقالح... عاشق صنعاء الكبير

30 نوفمبر 2022
+ الخط -

"مسكين... الإنسان

رحلتُه تقومُ على إيقاعِ ثلاثِ كلمات

بَكَى،

تَعِبَ، 

مات".

هكذا قال الشاعر والناقد الراحل، عبد العزيز المقالح، في ديوانه "كتاب صنعاء"، ذلك الديوان الذي كرّسه للتغنّي بصنعاء، محبوبته الأثيرة، التي رفض مغادرتها منذ عودته من مصر بعد حصوله على شهادة الدكتوراه أواخر سبعينيات القرن الماضي، ما دفع لجنة جائزة العويس إلى احترام هذا القرار، فجاؤوا إليه في صنعاء لمنحه جائزتها التي فاز بها عام 2010.

قضى المقالح ثمانية عقود في محراب الأدب والنقد والفكر، أصدر خلالها أكثر من ثلاثين كتاباً، تنوّعت بين الشعر والنقد والفكر، وكانت صنعاء محور أوّل ديوان له تحت عنوان "لا بد من صنعاء"، الصادر عام 1971، وهو مقتبَسٌ من بيت الإمام الشافعي:

لا بدّ من صنعاء وإنْ طال السفرْ ... وإنْ تحنّى كلُ عودٍ وانعقرْ     

يقول المقالح في ديوانه الأول:

يومًا تغنّى في منافينا القدرْ ... لا بدّ من صنعاء وإنْ طال السفرْ

لا بدّ منها.. حبُّنا.. أشواقنا ... تدوي حوالينا: إلى أين المفر؟

إنا حملنا حزنَها وجراحَها ... تحت الجفون فأورقتْ وزكا الثمر

وبكلِّ مقهىً قد شربنا دمعَها ... اللهَ ما أحلى الدموعَ وما أمر

وعلى المواويلِ الحزينةِ كمْ بكتْ ... أعماقُنا وتمزّقتْ فوقَ الوتر

ثم توالت الدواوين، لتبلغ خمسة عشر ديواناً، كان آخرها "بالقرب من حدائق طاغور"، الصادر عام 2018، وقد عَنون بعض الدواوين بلفظة كتاب مثل: كتاب صنعاء (1999)، وكتاب القرية (2000)، وكتاب الأصدقاء (2002)، وكتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان (2004)، وكتاب المدن (2005)، وكتاب الأم (2006)، وهو تكريس مركّز لموضوع الديوان.

ثمانية عقود في محراب الأدب والنقد والفكر، أصدر خلالها أكثر من ثلاثين كتابًا، تنوّعت بين الشعر والنقد والفكر

في "كتاب صنعاء"، يفتتح الديوان بالقول: "كانتِ امرأةً/ هبطَتْ في ثيابِ/ الندى/ ثم صارت/ مدينةْ".

ولا ينسى المقالح أن يضمّن مقولات وأشعارًا أخرى له ولغيره، في ذيل كلّ قصيدة من قصائد الديوان/ الكتاب الست والخمسين، فيقول راويًا لنفسه:

هي صنعاءُ حانةُ الضوءِ فادخلْ ... بسلامٍ، وقَبِّلِ الأرضَ عشرا

واعتصرْ من جمالها الفاتنِ البكرِ ... رحيقًا يضيفُ للعمرِ عمرا

وينقل عن الشاعر السوري سليمان العيسى:

تُحِبُّها

وشوشوني، والتصقتُ بها 

شعثاءُ من سَفر التاريخِ غبراءُ

مَنْ منكمُ لم يجدْ فيها طفولتَه

وتخترقْه – ولو لم يدْرِ – صنعاءُ؟

وتمضي القصائد موثِّقةً معالمَ صنعاء الجغرافية (مثل جبال عَيْبان ونُقُمْ والطيال وغيرها) والتاريخية (كقصر غمدان، وبستان السلطان ومساجدها العريقة) وحالات الإنسان (كشعراء الأغنية الصنعانية المشهورين). 

ليست صنعاء سوى مفتَتح الشاعر لبلد منسي في ركام الخلافات السياسية، اليمن الذي أحبّه الشاعر حدّ التماهي به

وليست صنعاء سوى مفتَتح الشاعر لبلد منسيّ في ركام الخلافات السياسية، اليمن الذي يحبّه الشاعر حدّ التماهي به، فيقول:

في لساني يَمَنْ

في ضميري يَمَنْ،

تحتَ جِلْدي تعيشُ اليمنْ

خلفَ جَفْني تنامُ

وتصحو اليَمَنْ،

صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا..

أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟!

إنّ ثنائية اليمن/ صنعاء، ظلّت حاضرة في أغلب دواوينه لم تغب؛ حيث يقول في قصيدة "البكاء بين يدي صنعاء" من ديوانه "هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي":

صنعاءُ يا أنشودةً عبقَتْ ... ‏وأجاد في إنشادِها الأزلُ

‏إنْ أبعدتْني عنكِ عاصفةٌ ... ‏وتفرَّقَتْ ما بينَنا السُّبُلُ

‏فأنا على حُبّي وفي خجلٍ ... ‏روحي إلى عينيكِ تبتهلُ

‏ألقاكِ منتصراً ومنكسراً ... ‏وعلى جناحِ الشعرِ أرتحلُ

‏يجتاحُني شوقٌ ويسحقُني ... ‏شوقٌ وفي التَّذْكـارِ أشتعلُ

وينشد في قصيدة "وجه صنعاء بين الحلم والكابوس" من ديوانه "عودة وضاح اليمن":

أيُّ وجهٍ أحدّثُ عنه؟

لصنعاءَ وجهانِ

أربعةٌ

ألفُ وجهٍ

فصنعاءُ خادمةٌ في بلادِ النجاشي

ومنسيةٌ في سجونِ الرشيد

وضائعةٌ في بلادٍ كثيرة.

بل لم تغب صنعاء عن ذهن الشاعر حتى آخر نَفَس شعري نفثه؛ إذ يقول في قصيدته الأخيرة (أعلنتُ اليأس):

صنعاءُ …

يا بيتًا قديمًا

ساكنًا في الروح

يا تاريخنا المجروح

والمرسوم في وجه النوافذ

والحجارة

أخشى عليك من القريبِ

ودونما سببٍ

أخاف عليكِ منكِ

ومن صراعات الإمارةْ.

السلام على عبد العزيز المقالح عاشق صنعاء الكبير، الذي ترجّل عن صهوة جواده الاثنين الماضي، راحلاً عن عشقه الأكبر صنعاء. 

وأقول:

يا آخرَ الفرسانِ في زمنِ الغبار

يا ناقدًا وجهَ القباحةِ كيفما جاءت

وكيف الوقتُ سار

يا عاشقًا صنعاءَ خيرَ بقاعِ الأرضِ

كانت خيرَ دار

اليومَ تبكي للرحيل المرِّ بالدمعِ الغزار

فالصمتُ بعدَ اليومِ عار

والخوفُ عار

ونحنُ مثلَك أيها المقدامُ

عشّاقُ النهار..

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري