المغرب.. الغش في الامتحانات كحقٍّ مشروع
إضافة لقطاعِ الصحة، يَعرف قطاع التعليم العمومي في المغرب أزمة منذ الاستقلال. استفحلتْ هذه الأزمة بِتنامي ظاهرة الغش في الامتحانات، خصوصًا الغش الإلكتروني، الشيء الذي وضع المنظومة أمام أسئلةٍ مستعجلةٍ وَجَب الإجابة عنها للمضي قُدمًا في النهوضِ بها.
الإشكال في هذه الظاهرة أنّ العديد من التلاميذ أصبحوا ينظرون إلى الغشِّ في الامتحاناتِ كحقٍّ مشروع، إلى درجة أنّه أحيانًا، يطلب بعض المُمتحنين، بكلِّ جرأةٍ وثقةٍ، أن يغض المُرَاقب الطرفَ عنهم وهم يستعملون الهاتف الذكي، أو آلية متطوّرة أخرى، للإجابة عن أسئلةِ الامتحان، وكأنّ الأمر عادي وليس فيه أيّ خطب أو حَرج.
استفحالُ هذه الظاهرة، خصوصًا في امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة)، ليس سببه انعدام التدابير التأديبية والزجرية بهذا الخصوص. على العكس، هناك قانون حكومي صارم يعود إلى سنة 2016 بخصوصِ التعامل مع حالاتِ الغش التي يجري ضبطها.
كما أنّ هذه الظاهرة تُثير قلق الكثير من المتدخلين من داخل المنظومة، خصوصًا هيئات التدريس التي تنتقدُ تنامي الغش كلّما أتيحت لها الفرصة لذلك. لكن ما تفشل فيه وبقية المتدخلين، أحيانًا، هو مواجهة الأسباب الحقيقية وراء تفشيها بين تلاميذهم وتلميذاتهم. إذ إنّه من غير العدل لوم المُتعلّم بينما نغضّ الطرف عن الأسبابِ الحقيقية التي تجعله يغشّ في المُقام الأوّل.
الطالب حين يغش، لا يفعل شيئًا مغايرًا لممارسات من يتحكمون ببلده ومصيره
أوّلًا، حسب تصنيف مؤسسة Insider Monkey، حَلَّ المغرب في المرتبة الـ 154 من حيث جودة التعليم. أمّا تقرير "البرنامج الدولي لتقييم المتمدرسين" (Pisa)، الذي شمل 64 دولة، وضع المغرب ضمن مجموعة أسوأ البلدان من ناحيةِ القدرات والكفاءات الإبداعية والنقديّة لدى التلاميذ.
إذًا، أليس من الحكمة الجزم بأنّ هذه الظاهرة هي وليدة انعدام الجودة داخل المنظومة؟ ثم كيف لنا أن نلومَ التلاميذ وهم يدرسون داخل منظومةٍ تصميمها يتمحور حول تقنياتِ تخزين وحفظ ومن ثمّ استرجاع ما تمّ تعلمه، وليس حول اكتساب مهارات التفكير النقدي وحَل المشكلات، التي تُخوّلهم الاستفادة من هذه التعلّمات بشكلٍ أنجع؟
ليس هذا فحسب، بل أصبحت المنظومة مُتمركزة حول المعدلات المتميّزة وامتحان الفرد، وكأنّهما الغرض الأسمى وليس إكساب المتعلّم مهارات تؤهله للخوضِ في تجارب الحياة المهنية والشخصية بكلِّ ثقةٍ. وهنا يمكن القول، بأيّ حقٍّ نُحاسب تلميذًا ونأمر بأقسى العقوبات في حقّه من فصل ومنع وغيرها، وهو أصلًا يَدرُس داخل منظومةٍ غير متوازنة، ولا حتى عادلة؟
فالتعليم الأجود في المغرب متوفّر في المدارس الخاصة ومدارس البعثات، التي يُدرِّس فيها موظفو وزارة التعليم الكبار والأغنياء أبناءهم. تلاميذ القطاع الخاص هم أبناء المغرب الوحيدون والحقيقيون، الذين لهم الحق في أحلام ومناصب آبائهم وطبقتهم الاجتماعية. وحتى إن لم يحصلوا على معدلاتٍ مرتفعة تخوّلهم ذلك، يمكنهم، عبر وساطة أولياء أمورهم، من الالتحاق بأفضل المدارس والمعاهد العليا وبعدها المناصب المهمة في الدولة.
ثم كيف يُمكننا أن نحرم ابن المواطن العادي من منظومةٍ تعليميةٍ كريمةٍ، وفي الأخير نطلب منه النجاح في امتحاناتٍ تكون بصعوبةِ امتحاناتِ أفضل المنظوماتِ في العالم؟ ونظرًا لهذه المُعطيات، يمكن الجزم بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة، فيرى المتعلّم أنّه ليس هناك داع للاعتكاف أسابيع وأسابيع لتخزين معلومات يمكن استحضارها بنقرةِ زرٍ يوم الامتحان!
لا يمكننا أن نُدرِّس التلاميذ على القيم والأخلاق والتربية على المواطنة، ونمتحنهم فيها، فيجدونها أشياء غائبة في وطنهم ولا وجود لها إلّا في المقرّر الدراسي
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. فَتفاقُم ظاهرة مثل الغش هو بالضرورة دليل على أنّ الأزمة في جوهرها هي أزمة قيم أولًا، داخل منظومةٍ من المفترض أن تكون الداعي الأوّل للقيم والتربية عليها.
ومن جهةٍ أخرى، وهي رّبما الأَهم، فقد وضع التقرير السنوي الأخير لمنظمةِ الشفافية العالمية المغرب في الرتبة الـ97، من أصل 180 دولة، بخصوصِ مؤشّر إدراك الفساد. وإذا كان الفساد والاِنتهازية والوساطات وإعطاء الرشاوي قد أصبح حسب هذا التقرير شيئًا بنيويًا، فمثل تأثير الدومينو (Domino Effect)، فلا بدّ أن يكون من المرتقب أن تنتقل هذه العدوى إلى قطاعِ التعليم بشكلٍ أو بآخر.
وكما السياسي الانتهازي، أصبح شعار "من نَقل انتقل، ومن اعتمد على نفسه بَقِي في قسمه" هو الشعار الرسمي للتلميذ المغربي في كلّ المستويات الدراسية. إذًا، من المسؤول حقًا عن هذه الطفرة في القيم؟ فالقادة والأشخاص في السلطة في المغرب هم قدوة لا يُحتذى بها، بل هم أشخاص ساهموا في خلقِ جَو سياسي حالي يتميّز بالريع والممارسة اللّا خلاقة، حتى الملك دعا إلى تخليقها في أحد خطاباته. ثم إنّ المشكل الأكبر هو أنّ معظم هؤلاء البرلمانيين هم أُميُّون بدون شهادة الثانوية العامة.
إنّ الإنسان هو بالضرورة ابن بيئته، فهو متأقلم مع ما يجري في محيطه. وإذا كان ممثلو هذا التلميذ في مجلسِ المدينة أو حتى في البرلمان هم تكنوقراط أميّون يستعملون أساليب ملتوية للظفر بالمقعد، ولا يحاسبون إذا ثَبُتَ في حقهم هذا الإخلال، إذا بأيّ حقٍّ نُحاسب تلميذًا يغشّ في امتحان؟ أليس بالأحرى أن نبدأ بمحاربةِ الغش من فوق وليس من الطبقات الدنيا؟ هذه الأسئلة تشكّل المنطق وراء اعتبار التلميذ اليوم الغشّ حقّه الشرعي، إذ إنّه معمول به من طرف الأشخاص الذين يتحكّمون ببلده ومصيره. وهو في الأخير لا يفعل شيئًا مُغايرًا لممارساتهم، ويحسّ بالظلم في حقّه حين يعاقب هو ويُعفى الآخرون!
وفي غيابِ القدوة الحسنة لهؤلاء التلاميذ، لا يمكن لومهم أيضًا، وقد جرى إفراغ الإعلام الرسمي من المحتوى الهادف وجرت تعبئته بدلًا من ذلك ببرامج تحتفي بالتفاهة والسطحية، والبلطجية أحيانًا، حتى التخمة. هناك قنوات ذات إمكانياتٍ مهمة، ولكنها صارت مجرّد وسائل للتواصل لصالح الساسة ودعايتهم بدل خدمة المواطن والمساهمة في تكوين وعي لدى الأجيال الصاعدة.
أصبح شعار "من نَقل انتقل، ومن اعتمد على نفسه بَقِي في قسمه" هو الشعار الرسمي للتلميذ المغربي في كلّ المستويات الدراسية
وكمدرّسين كنّا نراهن على خلقِ إنسانٍ واع، متحضّر سيساهم في تطوّر وتحسّن أوضاع هذا الوطن والرقي به فكرًا ومواطنة، إذ نجد أنفسنا في يومٍ من الأيّام نُصحّح أجوبةً تمّت صياغتها باستعمال الذكاء الاصطناعي؛ أجوبة خالية من الأخطاء التقنية واللغوية، وخالية من الإِحساس والنزعة الشخصية لذات وفكر المتعلّم أيضًا.
وفي تيارٍ آخر، أَعلنت الوزارة الوصية على نتائج البكالوريا لهذه السنة، بحيث أقرّت في إخبارٍ لها بأنّ نسبة النجاح في الدورة العادية قد وصلت إلى 68%. لكن بالنظر إلى هذه النتائج، نستخلص أنّه، إمّا أنّ التقارير حول جودة المدرسة المغربية هي تقارير غير دقيقة، أو أنّ المنظومة هي في الحقيقة لا تعيش أزمة بتاتًا! وبالنظر إلى أنّ هذا الموسم الدراسي قد تميّز بإضرابٍ عام شلّ المنظومة لأشهر، وكاد أن يهدّد بِسنة بيضاء في المغرب، يجعل من تحصيل نسب النجاح هذه معادلة صعبة جدًّا.
تميّزت امتحانات البكالوريا هذه السنة بحادثٍ مأساوي تمثّل في انتحارِ تلميذةٍ في أوج شبابها بمدينة آسفي بعدما ضُبطت في حالةِ غشٍّ وتحرير محضر غش في حقّها في أوّل أيّام الامتحان. هذا الحدث وحده بصم بفشلِ الموسم الدراسي لمن كان لا يزال يُراهن على نجاحه.
هذه الحادثة هي بمثابة صرخة لإنقاذ ما تبقى من منظومتنا التعليمية وإعادةِ النظر في أهدافها الحقيقية ورهاناتها، إذ لا يمكننا أن نرتقي بوطننا وشباب المستقبل يغشّون في أوّل امتحان شخصي لهم. كما أنّه لا يمكننا أن نُدرِّس التلاميذ على القيم والأخلاق والتربية على المواطنة، ونمتحنهم فيها، فيجدونها أشياء غائبة في وطنهم ولا وجود لها إلّا في المقرّر الدراسي.
وأخيرًا، على الوزارة الوصية على هذا القطاع أن تتحلّى بالإِرادة، والشجاعة أيضًا، لتعيد النظر في خريطة الطريق، لأنّ البوصلة غير موجودة لتحصيل رهاناتها. ولعل انتحار التلميذة صفاء من أعلى الجرف هو انتحار جماعي ساهم فيه العديد منّا، كلّ من موقعه، وهو دليل قاطع على أنّنا دخلنا مرحلة الأزمة داخل منظومتنا التعليمية.