المضحك المبكي في العيد

30 يوليو 2020
+ الخط -

مع اقتراب العيد بدأت أمزجة الحاضرين في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" تتغير. قال أبو محمد:  لما بيقرب العيد منشتاق للبلد، وممكن نتضايق شوي، بعدين منقول لحالنا إنه القصة ما عادت تحرز.. أنا بهالعمر إذا بيعلّق فيني هالفيروس الكورونا (الشَيَّاع) مستحيل يتركني من دون ما يجيبني كتاف. ترى هوي الفايروس لو كان وحدُه ما بيأثر علي، بس متلما بتعرفوا عندي أمراض تانية، يعني الأمراض بتتكاتر علي.

أبو الجود: وأنا متلك، سمعتهم عم يحكوا في التلفزيون إنه هادا الشَيَّاع الكورونا لما بيعلق بالإنسان بيصير يتكاثر، يعني الكوروناية الوحدة بتصير ألف، ألفين مية ألف.. أنا بالنسبة إلي إذا بيجي كورون محترم هوي ومرته وكم واحد من ولاده بينهوني، وهيك أحسن له، ما داعي يعذب حاله ويتكاثر. بتعرف يا عمي أبو محمد قصة عمي أبو خليل الله يرحمه لما انكسرت رجله وهوي عمره تمانين سنة؟

حنان: حتى لو كان أبو محمد بيعرفها، لازم تحكيها، لأني نحن كلنا ما منعرفها.

أبو الجود: على راسي. راح إحكيها. يا ست حنان؛ عمامنا من الجيل القديم كانوا يمزحوا مع بعضهم مزح تقيل، وأوقات بيكون المزح تبعهم بيخوّف. مثلاً، هادا عمي أبو خليل كان ماشي في الزاروب اللي بيطلع من قدام دارُه، ورايح باتجاه الجامع منشان يصلي الصبح. تفركشت رجله، وزحط، ووقع ع الأرض. بلا طول سيرة أخدوه عَ المستشفى بإدلب، وجَبَّروه، بعدين جابوه ع البيت، وسطحوه ع التخت، وربطوا له في رِجْلُه حديدة تقيلة منشان تبقى رجله مشدودة لتحت. ولما إجوا رفقاته ليزوروه، بلشوا يمزحوا مع بعضهم متل العادة.. وهوي مفكر إنه ما حدا راح يمزح معه، لأنه مريض. لكن فجأة قَرَّب منه صديقه أبو الحجي، ووشوشه وقال له: شغلتك ما عادت مطولة يا أبو خليل، هلق ملك الموت عليه السلام مسكك من رجلك. وصدقني ما عاد يفلتك لحتى تصير عنده!

أبو الجود: لما بيكون عندك سيارة عتيقة كتير، وما عاد تتصلح ولا عاد تنباع، بتروح على مديرية النقل بتاخد اللوحات اللي عليها نمرة السيارة وبتسلمهم للمديرية، وبيكتبوا لك على المعاملة (لا مانع) وبيدقوا فوقها الخاتم..

أبو خليل بوزم واكفهر وجهه. والحاضرين صار عندهم فضول ليعرفوا أيش قال له لما وشوشه. وطلبوا من أبو الحجي يحكي لهم. حكى لهم. بالأول ضحكوا، بعدين صاروا يطيبوا خاطر أبو خليل ويقولوا له: لا ترد على الحكي، الأعمار بيد الله، وما حدا بيموت إلا في يومه، بعدين هلق رجلك انكسرت، وكلها كم يوم بتطيب، وبتمشي عليها متل الغزال الشارد..

بقيوا يحكوا معه من هالكلام لحتى روق وضحك وصار كل شي تمام. لكن بعد مدة قصيرة صار حريق في بيت أبو خليل، أدى لوفاته. وبوقتها أبو الحجي صار يحكي مع رفقاته بثقة، على أساس هوي بيعرف كل شي، ويقول لهم: أنا مو قلت لكم إنه ملك الموت مسكه لأبو خليل من رجله وما عاد يدشره لحتى يبطحه؟ يا شباب لما صار الحريق، لو كانت رجل أبو خليل سليمة كان هرب، لكن كيف بده يهرب إذا كان حدا ماسكه من رجله؟ مستحيل.

أم زاهر: بالفعل مزحة رهيبة، بس حلوة.

أبو الجود: راح إحكي لكم قصة عن هادا أبو الحجي، أحلى من قصته مع أبو خليل بكتير.

أبو محمد: هات لنشوف.

أبو الجود: أبو الحجي في آخر عمره انصاب بعدة أمراض دفعة وحدة. شحوم ثلاثية، وكوليسترول، وجلطة دماغية، وتَسَرُّع في القلب، والتهاب البروستات، ومشاكل في الرئتين وفي البلعوم.. وطول النهار ولادُه ياخدوه من طبيب لطبيب، ومن مخبر لمخبر، وأخيراً قرروا الأطباء إنه هادا لازم يروح على بيته، ويودع عياله ورفاقه. ومتلما بتعرفه، بلدنا زغيرة، وخبر من هالنوع خلال دقايق بيعبي البلد، وصاروا يحكوا أهل البلد إنه أبو الحجي خلص سلم اللوحات ودَقّ الـ لا مانع.

أبو ماهر: دقيقة بالله أبو الجود. شو يعني (سَلَّمْ اللوحات ودَق الـ لا مانع)؟

أبو الجود: لما بيكون عندك سيارة عتيقة كتير، وما عاد تتصلح ولا عاد تنباع، بتروح على مديرية النقل بتاخد اللوحات اللي عليها نمرة السيارة وبتسلمهم للمديرية، وبيكتبوا لك على المعاملة (لا مانع) وبيدقوا فوقها الخاتم.. وعندنا في البلد لما بيشوفوا رجال مشارف ع الموت بيقولوا: مسلم اللوحات وداقق الـ لا مانع!

أم زاهر: مع أني أنا من نفس بلد أبو الجود بعمري ما سمعت هالمصطلح. نحن بهيك حالة منقول: داروه عالقبلة.

أبو الجود: لا تنسي يا ست أم زاهر إني أنا شوفير، واللي حكيته هادا من لغة الشوفيرية.. المهم إنه أبو الحجي، خلال هالفترة صار بيته مقصود من معارفه وأقاربه ورفقاته.. وصار يجي وفد يروح وفد، وهوي متضايق وتعبان ومو حابب يشوف حدا. ابنه الزغير سامر لاحظ هالشي، فدخل لعنده وقال له: ياب، إنته مضيت عمرك في المزح والضحك.. ومطرح ما بتكون كل الجو بيصير فرح وبهجة.. وأنا شايف إنك في الفترة الأخيرة عم تتضايق من الناس اللي عم يجوا ليستفقدوك لأنهم عم يخلوك تشعر بالمرض.. إذا مانك حابب تستقبل حدا قلي، أنا مستعد إكتب لافتة ع الباب وقول إنه الزيارات ممنوعة بأمر الطبيب.

صفن أبو الحجي دقيقة، وقال له: بدك الصراحة يا سامر؟ الناس اللي عم يجوا يستفقدوني خبيثين وملاعين، عارفين إني سلمت اللوحات ودَقّيت ختم الـ لا مانع، وإني حطة وشيلة راح إتوكل على الله وأشرق.. منشان هيك عم يجوا لحتى يتودعوا مني. خليهم يجوا مانها مشكلة.
أم زاهر: شلون يعني راح يشرّق؟

أبو الجود: المقبرة في بلدنا صايرة شرقي البلد.. واللي بيموت عندنا بيقولوا شَرَّقْ..

حنان: كل شي عندكم إله اصطلاحات وبيحتاج لتفسير.

كمال: هادا دليل غنى اللغة، وكونها عامرة بالمرح والفكاهة.

أبو الجود: المهم. آخر شي إجت المجموعة الخاصة بأبو الحجي. اللي هني أصدقاؤه المقربين. أبو الحجي لما شافهم صار يبكي. الرجل اللي طول عمره بينكت وبيخلي الناس تضحك صار يبكي. رفاقه تأثروا بالموقف، وهوي شعر بهالشي. فقال لهم: تفو عليكم كلاب. أكيد هلق عم تفكروا إني أنا بكيت لأني بدي أموت.

سألوه بصوت واحد: نعم؟ لكان ليش عم تبكي؟

قال: عم إبكي عليكم، لأني إذا أنا بموت مين بده يضحك عليكم!

ومات بعدما قال هاي الجملة مباشرة!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...