الكاتب والمؤسسة.. جائزة ساويرس مثالاً
دوّت مفاجأة من عيار ما، أديب مصري شاب يتنازل عن جائزة أدبية، ويهمس أحدهم: "حد لاقي جايزة النهاردة؟ ده ربنا مخلقش فقر، إنما خلق قلة عقل!"، ويتمتم ثانٍ وثالث ورابع بما يدور في هذا الفلك، وأكثر. لكن تبقى ثنائية المثقف والسلطة، الكاتب والمؤسسة، جدلية متشابكة تحكمها المواقف حيناً، والمصلحة في أحيان كثيرة.
لم يكن شادي لويس بطرس أول من يرفض جائزة أدبية، أو يتنازل عنها، وإن اختلفت المسوغات، ولم تكن جائزة نجيب ساويرس الثقافية بدورها، أول من تجد حرجاً ما، وإن استفاض الناس في أنّ الكاتب كان يعلم بترشيحه للجائزة واحتمالية الفوز، فلماذا لم يرفض التقدّم للجائزة من بابه؟ أسئلة كثيرة وسياقات مختلفة، كلها مشروعة، وللحقيقة، كما للعدالة، وجوه كثيرة.
أوضح الروائي الشاب عبر "فيسبوك" موقفه من الجائزة، وخلال العامين الماضيين كتب مرّات عدّة عن الجوائز وموقفه منها، وهاجم في مقال بموقع إلكتروني، نجيب ساويرس، وكلّها إحالات إلى أنه لن يقبل بالجائزة، على الأقل تساوقاً مع موقفه.
بالأمس كان القرار نفسه في رأس الروائي المصري، صنع الله إبراهيم، حيث مضت 20 عاماً، والذاكرة تأبى أن تنسى هذه اللحظات المتوترة. يعتلي صنع الله إبراهيم منصة الدورة الثانية لملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، بعد إعلان فوزه، من خلال لجنة تحكيم يرأسها الطيب صالح، وبرفقته نقاد عرب من العيار الثقيل، هم محمود أمين العالم، فيصل دراج، سيزا قاسم، محمد برادة، إبراهيم فتحي، فريال غزول.
لحظة من الصمت والارتباك والإحراج، قرّر صنع الله إبراهيم أن يصفع الجميع وعلى الملأ، رفض الجائزة ووزّع على الحاضرين بياناً يؤيد موقفه، رافضاً موقف الحكومة التي تتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية.
جعلتني أتصبّب عرقاً يا أخي؟! حرام عليك! يحدّث جابر عصفور نفسه، قبلها بيومين تولى عصفور مهمة إخبار صنع الله بالفوز، لم تلح في وجهه علائم الرفض، سأل بهدوء الأطفال وربما بفضولهم: "وهل وافق فاروق حسني (وزير الثقافة) على إعطائي هذه الجائزة؟" أجاب عصفور: "بالتأكيد، اللجنة قرّرت وأنت الفائز".
تبقى ثنائية المثقف والسلطة، الكاتب والمؤسسة، جدلية متشابكة تحكمها المواقف حينًا، والمصلحة في أحيان كثيرة
قيل إنّ القرار كان يقتضي فوز شخصية مصرية، بعدما فاز في الدورة الأولى السعودي عبد الرحمن منيف، وقيل غير ذلك. وقال الذين لا يعلمون يا ليته أخذ المبلغ وتبرع به لفلسطين، وكثرت أقاويل هؤلاء وهؤلاء.
من خلال وكيله الأدبي، علم شادي لويس بترشحه لجائزة ساويرس قبل إعلان فوزه بيومين على الأقل، وفي المدة ذاتها (تقريباً) مرّر جابر عصفور لصنع الله إبراهيم نبأ فوزه بجائزة ملتقى القاهرة، لكن القفز في أعماق الأمس، بالعودة إلى 1964، نجد أنّ جان بول سارتر قدّم سبباً وجيهاً لحيثيات رفضه جائزة نوبل للآداب.
في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1964، قرأ سارتر صحيفة لوفيغارو ليتيرير، وفيها ما يفيد بأنه هو الفائز بجائزة الأدب الأكبر والأشهر عالمياً، لم يكن متيقناً من ذلك، لم يتصوّر أنّ الجائزة تُمنح دون أخذ رأي الشخص المعني بذلك. ليس هذا مبعث رفضه الجائزة، لكن الرفض يتساوق مع مواقف سابقة التزمها، منها أنّ الكاتب لا يعمل إلا بوسيلته فقط، الكلمة المكتوبة، ولا يجب أن يتحوّل إلى مؤسسة؛ إذ إنّ قبوله الجائزة يقيّد مواقفه ويحجّم حريته، وليحافظ على مواقفه يجب أن يكون مستقلاً.
في جلسة خاصة، وخلال استعادة لحظة رفض جائزة ملتقى القاهرة، لم يحمل صنع الله إبراهيم سياط جلده على الفائزين، أو من قبِلوا التكريم، معلّلاً ذلك بالقناعات الشخصية، والظروف التي تحيط بالناس، لم يرتد مسوح القديسين مسفّهاً أحلام المُكرّمين. هنا وقفة مهمة، إذ قد يتاح لك من الظروف على اختلافها ما لم يُتح لغيرك، وحين رفض سارتر الجائزة قال إنه لا يحمل أي نقد لمن تُوّجوا بها، وإن موقفه يخصّه وحده، ولا يسعى لتعميمه أو لتربيع الدائرة.
لم يحمل الروائي صنع الله إبراهيم سياط جلده على الفائزين بالجائزة التي رفضها، أو من قبِلوا التكريم، معلّلًا ذلك بالقناعات الشخصية، والظروف التي تحيط بالناس
المبلغ المالي المصاحب للتكريم له حديث يتردّد، في لقطة باسمة ذكر شادي لويس، أنّ والدته حاولت ثنيه عن رفض الجائزة، وأن تقنعه بالتبرّع بجزء من قيمتها للمحتاجين، وأنّ المبلغ الذي اقترحت التبرّع به كان يتضاءل شيئاً فشيئاً. وبعين الريبة، نظر سارتر إلى المبلغ المالي المصاحب لجائزة نوبل، وقال إنه كان يفكر في أمرين أحدهما (بالتساوق مع والدة شادي لويس وبعض أحباء صنع الله إبراهيم) التبرّع به ومساعدة منظمات أو حركات ما، أو يرفض الجائزة، فيحرم هؤلاء المساعدة المالية، مستنتجاً أنّ ذلك "إشكال مزيّف"، على حدّ تعبيره.
في ردود الفعل، رفع منتسبو جائزة ساويرس عقيرتهم بأنها لم تخسر، وأنها شرف لمن يحملها وينضم إليها. أما جابر عصفور، فلملم ما بقي من ماء وجهه وارتباكه، معلناً أن صنع الله لم يرفض الجائزة من الحكومة، بل رفضها من الأمة العربية كلها! وابتلع الوزير الموقف معلّقاً في غضون دقائق بأن صنع الله إبراهيم يشحذ مجداً يتوق له! "ذا تايمز" اللندنية ارتأت أنّ سارتر رفض نوبل "خشية أن يوصف -قبل الأوان- بأنه شيخ الأدب المسن".
لم يرفض هؤلاء الجائزة ارتجالاً، أو في لحظة فوران غضب ما، إنما أسّسوا قناعاتهم والتزموا بموجبها أمام أنفسهم قبل غيرهم، تتفق معهم أو تختلف هذه مسألة، لكنك تكبر فيهم عدم تلوّنهم، على طريقة الشاعر نزار قباني:
أنا لا أرقص في الحب على خمسين حبلاً
لا ولا أشدو على ألف مقام
إنني أؤمن بالتوحيد في دين الهوى.
وليس الهوى ديناً يا عم نزار، سامحك الله وغفر لك. ولكن، وما أكثر المتلوّنين والمطبلين ومرتزقة الفن والأدب والسياسة، وهلم جرا!