تأرجح روتين الذّات.. الفلسطيني بين "الفعل "وقطع "الميلاد"
العيش في خوف من النتائج، العيشُ في خوف من ردّة فعل العدو، عيشٌ العاجزين لا العقلانيين كما يدّعي البعض، الاحتياط في أوقات كهذه يصبح مجرّد ذريعة لعدم تغيير الواقع، وعدم العيش، وعدم التفريط في الوحش لا الأبرياء، جبنٌ يرتدي وسام الشّرف، الخائفون من النتائج في الحروب، هم الخاضعون، المستسلمون، فالنتائج في الحروب تتشابه، أنت ميتٌ كلّ يوم، ما الذّي بقي لتخسره؟
حياتك تشبه حياة أجدادك الذّين قتلوا على يد العدو، أو دفنوا داخل الأقبية مثل عمّك، النتائج التّي يخافُ منها هؤلاء هي مجرد إعاقة في إرادتهم، إنّهم مقعدون، يفتقرون لتلك المقدرة على قطع روتينهم، وقد تعايشوا مع السلام، وذلك السلام الذي يسري في عروقهم ما هو إلا اسم أشيك لعملية الإخصاء، ما الفرق بين من ينزعُ أرضك، أو ينزعُ عنك حقك في الدفاع عنها؟ إنّهما سيّان، كلاهما يدافع عن وجود كذبة تاريخية، فقط الثاني سيكون على هيئة الذّي يقفُ إلى جوارك حينما تموت في المخيّمات، أو من يضعُ على قبرك القليل من الورود، بدلاً من أن يطلب منك بناء شرفة لورودك، أنت الذّي لم تترك لك الحياة مقعداً إلاّ وأخذته، عليك أن تتعلّم بناءه بنفسك اليوم، فقد عوّدتنا الشخصية الانهزامية المتخاذلة على الغرق في التبرير، علمتنا كيف تجيد التغطية بالمصطلحات، وما أوسع مصطلح الإنسانية البائس الذّي فتح غرفاً فخمة في الفنادق، وبنى قصوراً ومصانع، ومنح الكثير من الجوائز، مع الوقت. إذن، وجد الانهزاميون غطاءهم الجديد للقضايا، وفي الحقيقة ما عدنا نعرفُ: هل يدافع هؤلاء عن موت العزل غداً، كردّة فعل من العدو، أم أنهم يدافعون عن تأجيل موتهم فقط مثلما يحلو للعدو؟
الخائفون من النتائج في الحروب، هم الخاضعون، المستسلمون، فالنتائج في الحروب تتشابه، أنت ميتٌ كلّ يوم، ما الذّي بقي لتخسره؟
الجميع اتفق على تصفية القضية، تصفية الأبرياء، لكن في وقت لاحق، وعلى دفعات، الكلّ اتفق على الهزيمة، فاختاروا هم المجازفة، بأن يسقطوا الأسطورة، هذا الكيان المنفوخ، الكيان الوظيفيّ، المدجّج بالأسلحة والتكنولوجيا، فتجوّل في شوارع مستوطناته شبانٌ لا ينتمون لجيش نظاميّ، هذا الكيان "الفاضل" الذّي يتباهى بديمقراطيته أصدقاؤه، ويتباهى هو بتجارة أنظمة التجسّس، لا تمرّ عليه إهانة إلا وردّ بمجزرة، فهل يخوض الإنسان جريمة حينما يفكّر في الولادة من جديد؟
حتّى تتجاوز الفيلسوفة، حنّة أرندت، المفاهيم المذابة بعضها ببعض، وحتّى يتمكن كلّ شخص من التسرّب في عمق الفكرة، لا في الترجيح، ميّزت بين العمل والحرفة، والفعل هذا ما مكنّها من الوصول السليم إلى خاصيتي "الفعل" وهما "الحرية" و"التعدّد"، وما يسمّى عند الفيلسوفة بنظريّة الفعل. هنالك جانب ضمن هذه النّظرية أدركته أرندت، وهو أنّ كلّ نشاط مرتبط بشكل ما بظاهرة الميلاد، الولادة كنوع من التّجدّد، والتّي تتحقّق كلّ مرّة نعمل فيها، وكلّ مرّة نبدأ فيها شيئا ما جديد، إذ يمكن حسبها للبداية الجديدة الكامنة في الميلاد أن تبرز نفسها في العالم فقط لأنّ القادم الجديد يمتلك القدرة على بدء شيء جديد وهو "الفعل"، ومن ثمّة تميل الكفّة لكوامن هذا "الميلاد"، بحيث يفهم على أنّه القدرة البشريّة على بدء مجموعة جديدة من الأحداث، والفعل نتيجة طبيعية "للميلاد": فنحن ولدنا كأفراد من كائنات تقوم ببدايات غير متوّقعة، وحيث إنّ الفعل كبداية كامن في الميلاد، وحيث إنّه تحقيق للحرية، فهو (وفقاً لأرندت) يحمل معه القدرة على عمل المعجزات، "ففي طبيعة البداية يتم بدء شيء جديد لا يمكن توّقعه أيّا كان ما حدث سابقاً، وإنّ تلك الخاصية المتعلّقة بعدم التوّقع المرعب كامنة في كلّ البدايات، والحقيقة أنّ الإنسان قادر على فعل ما لا يمكن توّقعه، فكلّ إنسان متفرّد، ومع كلّ ميلاد يأتي شيء جديد في العالم".
تعدّ لحظة "الميلاد" لحظة حاسمة لصنع المفارقات الجذريّة عبر ترك الذّات تكتشف ذاتها بوسائلها الطبيعية، خاصة إذا ما وُضِعت في المواجهة
وهكذا، فإنّ ميلاد كلّ فرد هو وعد ببداية جديدة: فالفعل يعني القدرة على الإفصاح عن النفس وإنجاز ما هو غير متوّقع؛ وهو ما يتفق تماماً مع هذا التصوّر القائل بأنّ معظم الأمثلة الملموسة للفعل في العصر الحديث، والتّي ناقشتها أرندت هي حالات الثورات والانتفاضات الشعبية، فادعاؤها بأنّ "الثورات هي الأحداث السياسية الوحيدة التي تواجهنا بشكل مباشر، وهي حتماً لها مشكلة في البداية"، يعدّ محاولة لإيجاد مساحة سياسية جديدة، مساحة يمكن أن تظهر فيها الحرية كحقيقة مرتبطة بالانتماء إلى العالم لتعطي أمثلة كتأسيس السوفييت بعد الثورة الروسية، المقاومة الفرنسية لهتلر في الحرب العالمية الثانية، والثورة المجرية عام 1956، ففي كلّ تلك الحالات كان لدى الرجال والنساء الشجاعة لقطع أنشطتهم الروتينية، للتقدّم عبر حياتهم الخاصة من أجل خلق فضاء عام يمكن أن تظهر فيه الحرية، والعمل بطريقة تجعل من ذكرى أعمالهم مصدراً للإلهام في المستقبل، وتبعاً لأرندت، فإنّهم للقيام بذلك قد أعادوا اكتشاف الحقيقة المعروفة لليونانيين، والتي تقول بأن الفعل هو أسمى نعمة للحياة البشرية، وهو ما يعطي لحياة الأفراد قيمة، الأمر يقارب على نحو ما في ما يحدث هذه الأيام من مواجهة، فالفلسطيني بتجاوزه "الميلاد" بـ"الفعل" أعاد اكتشاف حقيقته التّي أسقطت ذلك الرعب الكامن في إمكانيّة عدم المقدرة، العيش تحت تأثير أنّك أقلّ من الآخرين، هو العيش تماماً تحت فكرة القبول وعدم العودة إلى المكانة الطبيعيّة لذاتك من خلال تسليط منطق ما، مثل تفوّق الآخر عسكرياً، لكن التاريخ يعطينا أمثلة صريحة عن فكرة أنّ عدم التكافؤ عسكرياً غير كاف لأن يكون الطرف الأضعف قابلا للهزيمة، مثل تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق في الحرب الباردة بالرغم من امتلاكه ما يستطيع به تدمير كلّ الكرة الأرضية، وأيضاً أجبرت فرنسا، ومن خلفها حلف شمال الأطلسي، على الخروج من الجزائر بفضل تضحيات كبيرة جداً للشعب الجزائري، كما أنّ نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا تفكّك بفضل استماتة مقاومة السود، ولأنّه صار عبئاً على العالم. أمّا الجيش الأميركي، فاضطر للخروج من فيتنام، ما يعني في نهاية المطاف، أنّ امتلاك القوة لا يضمن النّصر دائماً.
وخلاصة القول، تعدّ لحظة "الميلاد" لحظة حاسمة لصنع المفارقات الجذريّة عبر ترك الذّات تكتشف ذاتها بوسائلها الطبيعية، خاصة إذا ما وُضِعت في المواجهة.