العنصرية الغربية... عرف متوارث أم سحابة صيف؟

02 يونيو 2022
+ الخط -

مع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية في 24 فبراير/شباط من هذا العام، شهد العالم موجة نزوح غير مسبوقة من أوكرانيا إلى دولة الاتحاد الأوروبي، إذ لجأ قرابة ثلاثة ملايين أوكراني أو أكثر إلى دول الاتحاد الأوروبي المجاورة: كبولندا، وسلوفاكيا، ورومانيا، والمجر، وسارعت دول الاتحاد الأوروبي لمنح اللاجئين الأوكرانيين صفة (الحماية المؤقتة)، بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب، وذلك في أول تطبيق لقرار الحماية المؤقتة الصادر عام 2001.

ومما أثار انتباه العالم والمراقبين الدوليين ومنظمات حقوق الانسان خلال هذه الأزمة المستجدة هو الاحتضان الكبير والترحيب الأوروبي غير المسبوق باللاجئين الأوكرانيين، وتجاهل باقي الجنسيات اللاجئة المقيمة في أوكرانيا والتي تعود لأصول شرق أوسطية وأفريقية، وكان ذلك جلياً عندما منعت السلطات البولندية العرب والأفارقة الفارين من جحيم الحرب من دخول أراضيها.

تعريف العنصرية

هذا الأمر دفعنا للخوض في مسألة معقدة نوعاً ما ألا وهي العنصرية أو التمييز العنصري، وتسليط الأضواء عليها، والبحث عن تاريخها وأسبابها ودوافعها وكمائنها في النفس البشرية، خاصة في المجتمعات الغربية التي تصف نفسها أنها أكثر مجتمعات العالم تطوراً وتقدماً وتحضراً.

فالعنصرية واحدة من أسوأ الممارسات البشرية الممقوتة على الإطلاق التي عرفها العالم، فقد ارتكبت في ظلها أو تحت مسماها الكثير من الفظائع والجرائم على مر التاريخ، وعند الولوج إلى تعريف العنصرية سنجد أن أبسط تعريف لها أنها نزعة وُلدت وترعرعت مع مجموعة من الأفراد، جعلتهم يشعرون بأنهم أسمى من حيث اللون والعِرق والنسب والدم والثقافة عن غيرهم، أو أنها منظومة فكرية متكاملة يعتمد عليها الفرد أو الجماعة لتبرير فعل ما كالقهر أو القتل لفرد أو جماعة أخرى.

وعلى هذا الأساس يمكننا تقسيم العنصرية إلى فكر وسلوك، أما عن الفكر (المعتقد) فهو أن يعتقد فرد ما أو جماعة ما أو شعب ما بأنه متفوق ومتميز عن غيره بلونه أو عِرقه أو نسبه أو دمه، أو أن يعتقد أنه يمتلك مهارات وقدرات ومواهب (خارقة) مخصوصة به دون غيره، أما السلوك فهو التعرض بالأذى اللفظي أو النفسي أو الجسدي، والحرمان من الحقوق أو انتزاعها لاعتبارات تتعلق بالدين أو العِرق أو اللون.

أوروبا والعنصرية

يعود أول فعل عنصري في تاريخ البشرية حسب عدد من المؤرخين إلى مقتل هابيل على يد أخيه قابيل، فقد اتخذ القاتل (قابيل) من كونه ينتمي إلى مجموعة المزارعين (الأرقى) مبرراً لقتل المغدور به (هابيل) الذي كان ينتمي إلى مجموعة الرعاة (الدنيا)، والعبرة من هذه اللمحة القصير هو إظهار أن العنصريّة قديمة قدم التاريخ البشري.

تعرض المدافعون عن حقوق الإنسان والمشرعون المتحدرون من أصول أجنبية للهجوم وتلقوا تهديدات عنصرية بالقتل

وعلى مدار التاريخ شهد العالم أوجها متعددة من العنصرية المتطرفة، ففي الحضارات القديمة كاليونانية والرومانية والهندية والفارسية والصينية والعرب بالجاهلية كان الرق والعبودية والتفاخر بالأنساب وأكل القوي للضعيف ووأد البنات أهم سماتهم، بل وصل الأمر ببعض الملوك وحتى الشعوب للاعتقاد بأن الدماء التي تجري في عروقهم أنقى وأطهر وأسمى من الدماء التي تجري في عروق الأمم الأدنى.

أما في العصر الحديث فقد أخذت العنصرية منحى أكثر حدة وتطرفاً، فأوروبا التي كانت لقرون طويلة حبيسة نفسها ويعمها الجهل والتخلف والفقر، شاءت الأقدار لشعوبها وملوكها منذ سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس غرناطة في عام 1492 أن يتسيدوا العالم، بفعل الكشوفات الجغرافية التي قادها عدد من ملاحيها ككريستوفر كولمبوس وبارثولوميو دياز، فأخذت تمارس أبشع أشكال العنصرية ضد الشعوب الأخرى التي وقعت تحت عبوديتها وسطوتها.

فبعد اكتشاف القارة الأميركية مباشرة بدأ المغامرون الإسبان والبرتغاليون الجشعون بتعقّب الذهب لدى السكان المحلييّن، في معابد الإنكا (في البيرو وكولومبيا)، والمايا والأزتيك (في المكسيك وأميركا الوسطى)، فعمدوا إلى تشبيه السكان المحليين بالبهائم نازعين عنهم صفتهم الإنسانية بغية تبرير قتلهم واستباحة أرزاقهم.

وإلى جانب عنصرية الإسبان والبرتغاليين في أميركا اللاتينية، ظهرت عنصرية البريطانيين وجشعهم في الهند، إذ شهدت الهند في أواخر القرن الثامن عشر تحت الاستعمار البريطاني أسوأ الكوارث في تاريخها التي قُتل جراءها الملايين ما بين عامي (1850 - 1899)، إثر المجاعات التي ضربت شبه القارة الهندية بسبب طمع وعنصرية المستعمر البريطاني.

أما عن أسوأ أنواع العنصرية فقد تأسست في ما يعرف بالولايات المتحدة الأميركية، إذ بدأ الأوروبيون في القرن السابع عشر باستعباد الأفارقة، وجلبهم من موطنهم في غابات أفريقيا، وتعاملوا معهم كعبيد للعمل لدى المستوطنين الأوروبيين الجدد بالسخرة في جنوب أميركا دون أدنى حقوق، ومع استحالة تقديم أرقام دقيقة يُقَدِّر عدد الأفارقة الذي تم جلبهم واستعبادهم بنحو 6-7 ملايين إنسان مستعبَد.

وقد استمرت معاناة الأفارقة من العنصرية والانتهاكات الفظيعة في أميركا حتى بعد استقلال الولايات المتحدة الأميركية عام 1776، إذ كانوا يرضخون لمبدأ عدم المساواة مع البيض الأوروبيين، وظهرت وحشية البيض في عام 1965 إثر شجار وقع بين رجال شرطة من البيض وشاب من أصول أفريقية يدعى (ماركيت فراي)، فقامت الشركة الأميركية بحصار حي (جيتو) الفقير الخاص بالأفارقة في لوس أنجليس واستخدمت رشاشات ثقيلة وقتلت 34 شخصا وسجنت 4 آلاف.

لم تتوقف عنصرية البيض عند هذا الحد بل تم في عام 1986 اغتيال القس من أصول أفريقية (مارتن لوثر كينغ) الذي نادى بالحرية للأفارقة على يد رجل أبيض، الأمر الذي أدى إلى اندلاع مظاهرات وأعمال العنف في 125 مدينة أميركية أسفرت عن مقتل 46 شخصًا على الأقل وإصابة 2600، وأخيراً في عام 2020 اندلعت المظاهرات والاحتجاجات وأعمال العنف في الولايات الأميركية والمدن الأوروبية المناهضة للعنصرية ضد السود، على أثر مقتل (جورج فلويد) على يد رجل أبيض من الشرطة الأميركية.

أما عن العنصرية في أوروبا فقد كان عرابها النظام الإقطاعي الذي هيمن على القارة الأوروبية في القرون الوسطى، إلا أن العنصرية الأكثر إيلاماً والتي اكتوت بها أوروبا نفسها فهي العنصرية النازية، التي تجلت مع صعود النازية ووصول أدولف هتلر لسدة الحكم في ألمانيا في أواخر يناير/ كانون الثاني عام 1933، الذي اعتمد أيديولوجيا شمولية تقوم على التراتب العرقي ووضع العرق الآري الجرماني في قمة الأعراق البشرية سمواً ورفعة.

فعاشت ألمانيا ومعها أوروبا على وقع العديد من الممارسات التي لا تمت للإنسانية بصلة، إذ تم قمع معارضي النظام النازي في ألمانيا، وعقب إقرار قوانين (نورمبرغ العنصرية) في منتصف الثلاثينيات توسع الاضطهاد والقمع ليشمل شعوبا وأقليات أخرى صنفها النازيون ضمن قائمة (الأعراق الدنيئة)، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 امتدت العنصرية النازية إلى جميع المناطق والدول التي وقعت في قبضتهم، فشاهد العالم مع نهاية الحرب عام 1945 فظائع (قوات الأس أس الألمانية) بمراكز الإبادة.

ولم تجلب الحرب العالمية الثانية لأوروبا سوى الدمار والخراب، حيث قدر عدد قتلى الحرب بفعل العنصرية النازية المقيتة بـ62 مليونا، أي ما يعادل 2% من سكان الأرض، إضافة إلى عشرات الملايين من الجرحى والمعاقين، كذلك أضعفت الحرب القارة الأوروبية ودمرتها وأذلت شعوبها وسلبتها هيمنتها عن جميع مستعمراتها في أفريقيا وآسيا، ما دفعها للانسحاب من معظم مستعمراتها إثر ثورات ومطالبات الشعوب المستعمَرة بالاستقلال، فشهد العالم ظهور عدد كبير من الدول المستقلة خلال خمسة عشر عاماً من انتهاء الحرب.

العنصرية ضد اللاجئين

ورغم انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتشار الديمقراطية وتأسيس عدد كبير من المؤسسات والمنظمات والهيئات المعنية بحقوق الإنسان، إلا أن الفوقية والعنصرية الغربية التي تكيل بمكيالين بقيت ظاهرة شامخة للعيان.

فمع بدء الألفية الثانية وتعرض العالم لعدد من الهزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبروز أزمة اللاجئين الفارين إلى أوروبا من جحيم الفقر والحروب التي تعصف ببلدانهم، استقبلت أوروبا حوالي مئات طالبي اللجوء ما بين عامي (2014 – 2018)، إلا أن اللاجئين يشتكون من غلبة المشاعر العنصرية المعادية لهم التي تنتشر في أوروبا على نطاق واسع.

وحسب جمعيات حقوق الإنسان لم يقتصر التمييز العنصري والاضطهاد ضد اللاجئين في العمل وأمور الحياة اليومية، بل امتد إلى العنف الجسدي واللفظي والنفسي، فضلاً عن زيادة الاعتداء على دور العبادة وحوادث (الدهس) بدافع العنصرية والكراهية.

كما تعرض المدافعون عن حقوق الإنسان والمشرعون المتحدرون من أصول أجنبية للهجوم وتلقوا تهديدات عنصرية بالقتل، إذ تعرضت وزيرة التكامل الإيطالية السابقة من أصول أفريقية سيسيل كينجي لمضايقات واستفزازات عنصرية، إذ قام أحد متابعي خطاب لها برشقها بالموز، ومثلها تعرضت وزيرة العدل الفرنسية السابقة ذات الأصول الأفريقية كريستيان توبيرا للاعتداءات العنصرية مراراً وتكراراً، وكل هذه الأفعال وغيرها تؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن العنصرية الغربية عُرف متوارث.

4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.