العم محمد يوسف فاكهة السينما المصرية (3)

05 اغسطس 2021
+ الخط -

حين خذله الحظ في المسرح والسينما، وجد محمد يوسف في الإذاعة فرصة للتنفيس عن طاقته الإبداعية، فقام بكتابة برنامج يومي لإذاعة صوت العرب التي كان يرأسها الإذاعي والكاتب المسرحي أحمد سعيد، وكان محمد يوسف يقدم في البرنامج تعليقات سياسية ساخرة على الأحداث، وأثارت بعض حلقاته صدى كبيراً ليس في مصر وحدها بل خارج مصر، خصوصاً الحلقة التي تحدث فيها عن اضطهاد السود في أميركا التي تدعي أنها زعيمة الحرية والأحرار في العالم، لكن نجاح البرنامج أثار حسد بعض الكتاب الذين شكوه إلى أمين حماد، مدير عام الإذاعة والتلفزيون، غاضبين من تخصيص برنامج يكتبه لوحده وطلبوا الاشتراك في كتابة البرنامج معه، ولم يعترض محمد يوسف على ذلك، لكنه فوجئ بإيقافه عن العمل في الإذاعة لمدة عامين، وفوجئ بأن فكرة برنامج (وراء القضبان) التي كان قد كتبها بشكل كوميدي، بحيث يلتقي المعلم شكل بالمساجين ويحاول تغيير شخصياتهم من خلال مهاراتهم ومواهبهم، ليتم تنفيذها بشكل مختلف دون الرجوع إليه.

كان إيقافه قد حدث لسبب عبثي لم يكن له أي دخل فيه، حيث راح ضحية الخلاف الذي وقع بين أمين حماد رئيس الإذاعة والتلفزيون وأحمد سعيد رئيس إذاعة صوت العرب، وحين ظن أمين حماد أن محمد يوسف مقرب من أحمد سعيد بسبب قيامه بتقديم برنامج يومي في صوت العرب قام بإيقافه لمدة سنتين، ورفض أن يختاره للمشاركة في بطولة مسرحية (أصل وصورة) مع محمد عوض، ليختار بدلاً منه أمين الهنيدي في ذلك الدور الذي جعله بطلاً مسرحياً فيما بعد.

كان محمد يوسف قبلها بفترة قد تلقى خبطة أقوى حين خسر أول فرصة للبطولة المسرحية التي كانت تنتظره بعد أن وقع اتفاق بين المشاركين في برنامج (ساعة لقلبك) على إنشاء فرقة مسرحية يلعب بطولتها شخص كل مرة ويساعده الباقون، وتم تقديم أول مسرحية من بطولة فؤاد المهندس، وكان الدور في بطولة المسرحية الثانية على محمد يوسف، لكنه فوجئ برفض فؤاد المهندس أن يشارك في تلك المسرحية بدور صغير بعد أن حقق نجاحاً ساحقاً وأصبح مطلوباً كبطل، مما أدى إلى فشل الفكرة، وذهب محمد يوسف إلى الإسكندرية للمشاركة في بطولة مسرحية  (دوّر على غيرها) مع زينات صدقي، ومع أنه حقق فيها نجاحاً كبيراً إلا أنه لم يستفد من نجاحها لأنها لم تصور للتلفزيون، ليسلم محمد يوسف أمره لله ويرضى بنصيبه، حتى يتجنب الإصابة بالإحباط الذي رأى تأثيره القاتل على مواهب بعض زملائه الذين لم ينالوا من الحياة ما تمنوه ولا ما يستحقونه.

كان موت والدة محمد يوسف قد أثر عليه بقوة ودفعه للانعزال وترك الفن لفترة، وبدأ طريقه في التصوف، لكنه سرعان ما عاد للتمثيل، ولمع في المسرح الكوميدي مع المخرج السيد راضي

جعلت كل هذه الأزمات محمد يوسف يدرك أهمية الاحتفاظ بعمله كمدرس للرسم، وبعد أن تمت ترقيته إلى منصب (موجه) قام بالتركيز على العمل في المسرح المدرسي، لتتخرج من تحت يديه مواهب كثيرة، من أبرزها الفنانتان سمية الألفي وليلى علوي، وكان ينبه مديري المدارس دائماً إلى أهمية التركيز على المسرح المدرسي الذي يمكن أن يلعب دوراً في بناء شخصية الطلاب وتساعدهم على التغلب على مشاكلهم النفسية، وكان دائماً ما يروي أن جيهان السادات حين كانت زوجة لنائب رئيس الجمهورية جاءت إليه خلال إشرافه على مسرح مدرسة سان جورج في مصر الجديدة وأخبرته أن ابنها جمال يعاني من الخجل والانطواء، فضمه إلى فريق التمثيل ليتغلب على هذا الخجل، وتفاعل مع زملائه وشارك في مسرحية حضرها السادات وزوجته.

استطاع محمد يوسف أن يحقق جزءاً من إشباعه الفني بالعمل كمخرج ومعد لمسرحيات المدارس ومكتشف للمواهب، وكان يرد على زملائه الذين يتعجبون من تركيزه في المسرح المدرسي مع أنه كان يمكن أن يحقق دخلاً أكبر لو تفرغ للعمل في الإذاعة قائلاً: "ما دام رضيت بالتلاتة مليم اللي باخدهم من الوزارة لازم أشتغل بيهم"، وحين تمت ترقيته إلى منصب رئيس قسم وعرف أنه سيكون لديه سلطة توقيع جزاءات على آخرين، وربما اضطر لإيذاء زملاء له حين يرتكبون أخطاء، قرر أن يسوي معاشه ويتفرغ للفن.

تزامنت استقالة محمد يوسف من الوظيفة الحكومية مع نجاحه في مسرحية (نمرة اتنين يكسب) التي كان قبل استقالته يؤدي دوره فيها فقط خلال فترة الصيف، ليفتح له التفرغ أبواب النجاح في العديد من المسرحيات الكوميدية، لكن مشواره في السينما ظل متعثراً لأسباب لا يفهمها، تماماً مثلما لم يفهم لماذا قرر أحد النجوم أن يطلق إشاعة تقول إنه توفي لكيلا يقوم بطلبه أحد في أي أعمال فنية، وفي حين كان يرفض ذكر اسم ذلك النجم المؤذي، كان يستشهد بالمخرج الكبير عاطف سالم الذي أبلغه بالإشاعة وقال له إنه كان يظن أنه مات.

كان موت والدة محمد يوسف قد أثر عليه بقوة ودفعه للانعزال وترك الفن لفترة، وبدأ طريقه في التصوف، لكنه سرعان ما عاد للتمثيل، ولمع في المسرح الكوميدي مع المخرج السيد راضي في عدة مسرحيات مثل (على فين يا دوسة) و(الدخول بالملابس الرسمية) و(مطلوب زواجه فوراً) و(ليلة مزيكا) التي قرر فيها أن يستعين بـ "لبّيس" لأول مرة، وحين استغرب زميلاه في المسرحية محمد أبو الحسن وسعيد عبد الغني لأن المسرحية تدور أحداثها في ليلة واحدة ولا يوجد فيها ملابس يمكن أن يحتاج إليها، لم يقل لهم إنه فعل ذلك لكي يساعد رجلاً محتاجاً كان يبحث عن عمل، فقرر أن يمنحه تلك الوظيفة في المسرحية التي تفاءل بنجاحها، وبدأ بعدها المشاركة في بعض المسلسلات التلفزيونية التي تصور في استديوهات الخليج، لكن المسرح ظل ملعبه الأبرز والأحب إلى قلبه طول فترة الثمانينات، وساعده على أن ينجو من الإحباط علاقته الجميلة بزوجته وولديه معتز ومنال، وقد رزقه الله من منال بحفيدين هما الحسين ونعمة، ومن معتز بحفيدين هما محمد والبتول.

كان ابنه معتز قد فكر في بداية حياته أن يعمل بالتمثيل وقرر الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية وذهب بالفعل لإجراء اختبارات القبول، وفي الاختبار سأله المخرج جلال الشرقاوي عن عمله الحالي فقال له إنه يعمل في مجال السياحة في أحد الفنادق الكبرى، فقال له جلال: "انت بتكسب من السياحة كويس، عايز التمثيل في إيه؟"، فأصيب معتز بخيبة أمل كبيرة وقال له: هو اللي بيمثل يبقى عايز المكسب بس"، ومع أن محمد يوسف كان سعيداً بوجود موهبة فنية لدى ابنه، لكنه كان يعرف صعوبة مشوار الفن، ولذلك تنازعته مشاعر الأسف على كبت موهبة ابنه، والرضا على نجاته من المآزق التي عاشها أبوه من قبله.

...

نختم الأحد القادم بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.