العمل المقاوم بوصفه رافعة مجتمعية
المجتمع الفلسطيني بوصفه جزءاً من العالم العربي له تاريخ ثقافي غني ونظام معقد من الأعراف والقيم الاجتماعية، نتيجةً لذلك، فإنّ فهم سيكولوجية المجتمع العربي ضروري لفهم ثقافة وسيكولوجية الشعب الفلسطيني وسيكولوجيته بشكل أفضل.
ويمكن القول إنّ أبرز جوانب الثقافة العربية هو تركيزها على التوازن، ما بين العائلة والمجتمع والدين جماعةً، ويرتبط ذلك بالاحترام أو ما يمكن تسميته الخضوع لقوّة السلطة، بما تتضمن قوّة الدين والبعد العائلي والاقتصادي أيضاً بوصفها سلطةً، وكلاهما يتفاعلان ما بين الأفراد والجماعات بتناغم.
هذه الأشكال من السلطة، بعواملها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، متجذّرة بعمقٍ ولها تأثير قوي على الهوية الفردية والسلوك الجمعي الفلسطيني؛ في مجتمع يشكل المسلمون ما نسبته 90%، وعليه تعتبر هذه العوامل أساسًا لتحديد سلوك أفراد المجتمع واتجاهاتهم، وتعمل على توحيدهم شعباً.
في اتجاهٍ آخر برز العمل المقاوم والنضال ليحتل دوراً هاماً في المجتمع الفلسطيني، وأضحى جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة الوطنية والهوية الفلسطينية، حيث تأثرت سيكولوجية المجتمع الفلسطيني كثيرًا بالمقاومة والنضال، بحيث أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من هويتهم وثقافتهم، كما أدى النضال الفلسطيني والمقاومة إلى تشكيل صورة عن النفس الفلسطينية، وهو مجتمع يحارب من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وتمكنت هذه الصورة من توحيد المجتمع الفلسطيني وتعزيز انتمائهم لقيم المثابرة والصمود والتضحية والنضال من أجل الحرية والاستقلال.
فعبر عدة عقود من الزمن ونتيجة للتحديات والمعاناة التي عاناها الشعب الفلسطيني منذ العهد البريطاني وما تبعه من إعلان دولة الاحتلال عام 1948، وما تلاه من نكبة فرضت عليهم النزوح والتهجير والاستيلاء على أراضيهم، وما تبعها من احتلال للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، كل هذا ساعد في تطور الهوية الفلسطينية لتتضمن مفهوم النضال والمقاومة، إذ ارتبط هذا التطور بتحولات سياسية واجتماعية متعددة وأصبح البعد الوطني والمقاوم أساسًا في الطريقة التي ينظر بها الفلسطينيون إلى أنفسهم وإلى من حولهم، بحيث تعززت هذه المفاهيم من خلال الثقافة الفلسطينية والفن والأدب والموسيقى والرياضة، وأصبحت المقاومة جزءًا لا يتجزأ من هذه الهوية.
العمل المقاوم بوصفه رافعة مجتمعية هو مصطلح يُستخدم لوصف التحول الذي حدث في الشباب الفلسطيني من الالتزام الجماعي إلى الالتزام الفردي تجاه قضاياهم الوطنية والمجتمعية
العمل المقاوم بوصفه رافعة مجتمعية هو مصطلح يُستخدم لوصف التحول الذي حدث في الشباب الفلسطيني من الالتزام الجماعي إلى الالتزام الفردي تجاه قضاياهم الوطنية والمجتمعية. في مرحلة ما قبل أوسلو، كان الشباب نموذجًا للشباب الملتزم جماعيّصا تجاه قضيتهم الوطنية وقضاياهم المجتمعية. ومع انتهاء انتفاضة الأقصى قرابة عام 2005، تحول الشباب إلى الالتزام الفردي، حيث قاموا بعمليات مقاومة فردية مثل الطعن والدهس. هذا التحول يعكس تفسيرات سوسيو-ثقافية وسياسية واقتصادية، إلى جانب عدم تلبية المؤسسات الفلسطينية طموحات الشباب وانعدام الثقة في البنية المؤسسية والحزبية.
ومن هذا المنطلق، كان العمل المقاوم للفلسطيني بمثابة رافعة لوضعه الاجتماعي وعاملاً مهمًّا يؤثر على مكانته في المجتمع، وعليه أصبح الالتزام بالمبادئ الوطنية والمقاومة سبيلًا يمكن للأفراد السعي إلى أن يصبحوا أعضاء أكثر مسؤولية ونجاحًا واحترامًا في المجتمع، كما يؤدي إلى مزيد من الاحترام من أقرانهم وفرص أفضل في الحياة، وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق غاية عند بعضهم، ووسيلة لتكوين روابط وكسب الاحترام وفرض نفوذ ومكاسب شخصية.
وفي هذا السياق، الباحث الفلسطيني إيهاب عوايص درس الإعلام الفضائي الفلسطيني وتأثيره على الهوية الوطنية لدى الشباب. هذه الدراسة تسلط الضوء على كيفية تأثير وسائل الإعلام على تشكيل هوية الشباب الفلسطيني وتوجهاتهم. في المجموع، يظهر أن الشباب الفلسطيني يعيشون في سياق تحولات معقدة، حيث يتأثرون بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويبحثون عن طرق للتعبير عن التزامهم تجاه قضاياهم.
واليوم، وفي عصر الاعلام الرقمي، نرى تأثير أعمال المقاومة والنضال على سيكولوجية الفرد الفلسطيني، بحيث أصبحت ملهمة تمنح صاحبها صفة البطولة، وتُقدمه مثلًا يُحتذى، ويملك طاقة التحريض والإلهام في أقصى درجاتها، حتى لو لم يكن هذا المقاوم أو ذاك صاحبَ طابع مميز، أو ذا تاريخ عائلي أو مناصب في العمل، ولكن المقاومة والفداء أضحيا قادرين على أن تهَبَ هؤلاء وأمثالهم قدرة تأثير تشبه في مفعولها تأثير القائد التقليدي.
وختاماً ومما نرى اليوم يمكن القول إن حركات المقاومة نجحت بإضافة بعدٍ جديدٍ في مقومات الهوية الفردية للمجتمع الفلسطيني تحت مسمى "المقاوم"، والذي أصبح يضفي إلى صاحبه سلطة توازي سلطة العائلة والمال والدين، بحيث أضحى هؤلاء المقاومون أمثلة يتغنى بهم قادة المجتمع المدني والوطني يرفعون أسماءهم دليلَ تصديقٍ وبرهان على ما يطلقونه من أفكار ويمارسونه من أعمال النضال والمقاومة.