العماء الإيديولوجي ومحور المقامرة

09 مايو 2024
+ الخط -

 

أوجد الإنسان الفلسفات والتصورات والأفكار لخدمة الإنسان والهدف منها تحقيق سعادته، وليس العكس. لذلك ليس مقبولاً أن تتحول الثورة بعد انتصارها إلى صنم يرعاه الثوار بالنار والحديد.    

خلال مراهقتي وبدايات شبابي كنت مفتونا بالثورة، متعاطفا مع الثوار في الجهات الأربع للعالم. ولا يهم الراية الإيديولوجية التي يرفع هؤلاء، إسلامية، ماركسية، ماوية، قومية... المهم أن تكون ثورة ضد الإمبريالية العالمية، والهدف منها ضرب وكلائها المحليين أينما وجدوا، إيمانا مني بأن العنف الثوري هو السبيل الوحيد للتخلص من ربقة الاستبداد العالمي، والأنظمة العميلة الموالية له في المنطقة. 

وبنفس المنظار الإيديولوجي، كنت خلال ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت الحرب العراقية الإيرانية تدور رحاها، من المتعاطفين مع النظام الإيراني، باعتباره نموذجاً يحتذى به فيما يخص الثورة على الإمبريالية العالمية والتصدي لمغامرات عملائها الإقليميين.

وهكذا استمر الأمر رغم كل شيء، سقوط جدار برلين واكتشاف الفظائع التي اُرتكبت وراء الستار الحديدي الذي بناه البلشفيون حول المعسكر الشرقي، انزلاقات الثورة الإيرانية وما رشح من أخبار عن المجازر التي ترتكب في حق المعارضين للحكم. رغم كل هذا ظللت مناصراً للثورة والثوار، بدعوى أن هذه الأخبار زائفة، وهي من صنع بروباغاندا الإعلام الإمبريالي. 

أنا لا أفهم هذا المنطق أو كما يسمى سياسة الكيل بمكيالين التي تتقنها القوى الإمبريالية الغربية، خاصة أميركا

إلا أن الربيع العربي أزاح النقاب عن الوجه البشع للثورة الإيرانية، فلم أفهم كيف يمكن أن ننعت المشاركين في الانتفاضات ضد الأنظمة الاستبدادية في المناطق التي يسيطر عليها الموالون للنظام الإيراني بالإرهابيين والانتحاريين، وفي الجانب الآخر ننعتهم بالثوار والشهداء، والأدهى أنها قامت بإجهاض بعض من هذه الانتفاضات بمد الأنظمة القمعية الموالية لها أو المليشيات المرتبطة بها بالرجال والمال والسلاح.

أنا لا أفهم هذا المنطق أو كما يسمى سياسة الكيل بمكيالين التي تتقنها القوى الإمبريالية الغربية، خاصة أميركا. من هنا بدأت غشاوة كانت تغطي عيني وتمنعني من رؤية حقيقة هذا النظام وزوائده الدودية في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن...

لم أعد متعاطفاً مع هذا المحور، بعد أن زاح عن أهداف المقاومة ونصرة المستضعفين أينما وجدوا، بل الأنكى أنه أصبح محورا للمقامَرَة، المقامَرَة بمستقبل الأوطان في منطقتنا العربية ومستقبل الأجيال اللاحقة، في حقها وحقنا في العيش في أنظمة ديمقراطية مدنية، ترعى حقوق الإنسان وكرامته. 

هذا لا يعني أنني صرت من المناصرين للمحور الآخر، وإن كنت أتفهم مخاوفه الحقيقية، بعد أن أبان النظام الإيراني عن طموحاته الفجة في الهيمنة على المنطقة، بنفس منطق القوى الإمبريالية العالمية، دون الدفاع عن مواقفه السياسية في مجمل القضايا المطروحة على منطقتنا العربية. 

الواجب الأخلاقي والاتزان الفكري يحتّم علينا أن نناصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والتوزيع العادل للثروات... أينما انتفض الناس من أجلها، متجاوزين بذلك مفهوم الاصطفاف الإيديولوجي الذي يجعلنا نتغاضى عن الجرائم التي يرتكبها من نتقاسم وإياهم نفس العقيدة السياسية.