العراق... الطابور الخامس وتجلّياته
كان لدى القائد العام لقوات الشمال اللواء، إيميليو مولا، خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة، قوّات تتكوّن من أربعة طوابير. وحين سُئل عن أيّ الطوابير الأربعة التي يتكوّن منها جيشه سيفتح مدريد، أجاب "هذه ستكون مهمة الطابور الخامس"، في إشارةٍ ضمنية إلى الجماعاتِ المُوالية له، والتي تعمل لصالحه في الخفاء داخل مدريد.
بعد ذلك أصبح مصطلح الطابور الخامس، متداولاً في أدبيات العلوم السياسيّة، وبعدها ترسّخ معنى هذا المصطلح، خصوصاً مع الاعتماد على الجواسيس والعملاء أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
ويصف هذا المصطلح، مجموعة الناس التي تعمل غالباً على محاولة محاصرة المدينة من الداخل، وتكون إمّا في صالح جماعة العدو أو في الدولة. وأنشطةُ الطابور الخامس هذا، قد تكون علنيّةً أو سِرّيّةً. وفي بعض الأحيان تقوم هذه القوّات السِرّيّة بمحاولةِ حشد الناس علناً لمساعدةِ هجومٍ خارجي. ويمتدّ هذا المصطلح أيضاً إلى الأنشطة التي ينظمها الأفراد العسكريون. ويمكن لأنشطةِ الطابور الخامس السريّة أن تنطوي على أعمال تخريبٍ وتضليلٍ وتجسّسٍ يُنفذها مؤيّدو القوّة الخارجية ضمن خطوط الدفاع بكلِّ سرّيّة.
شاع استعمال المصطلح من قبل أطراف وقوى ودول عديدة، وفي حوادث كثيرة، وخلال فترات مرحليّة وزمنيّة مُتفاوتة. وعلى صعيد الوطن العربي شاع استعمال الطابور الخامس في عددٍ من وسائل الإعلام العربي التي يرى بعض المُختصّين أنّها ظلّت منذ نشأتها مسكونة بهاجس المؤامرة، إلى أن صارت المؤامرة "بعبعاً مخيفاً"، تُفسّر به كلّ الإخفاقاتِ التنمويّة والعسكريّة والسياسيّة. وكان المعارضون السياسيون أكثر من يُوصمون بهذه التهمة لخروجهم على إرادةِ السلطة ولشقهم الإجماع الصوري المُنعقد حولها.
واستُعمل أيضاً، وبكثافة، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، فقد تمّ استهلاكه بشكلٍ كبير ليشيرَ إلى كل الأحداث التي تحدث داخل تلك البلاد، سواء أكان السبب فيها طرفاً خفياً، أم كان نتيجة لتلك الأحداث الناجمة عن التطوّر الطبيعي لمسار الدولة الخاطئ، فكثيراً ما استخدمته الدول من أجل التغطيّة على إخفاقها وفسادها السياسي؛ ومن أكثر دول الربيع العربي استهلاكاً لمصطلح الطابور الخامس، هي سورية ومصر، خاصة من وسائل الإعلام العربي.
مصطلح الطابور الخامس كثيراً ما استخدمته الدول من أجل التغطيّة على إخفاقها وفسادها السياسي
أمّا في العراق، فلم يتم استعمال مصطلح الطابور الخامس بكثرة، ففي فترات حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، كان يتم إطلاق مفردات مثل "الخيانة" "التجسس" "العمالة" للتخلّص من الخصوم السياسيين وأطراف المعارضة. وهذه مفردات مرادفه له على كلِّ حال.
أمّا في فترة بعد 2003 وصعود الإسلام السياسي، وأحزابه المعروفة بولائها العقائدي والمذهبي للجارة إيران، التي احتضنت هذه الأحزاب وشخوصها ودعمتها في أيّام المعارضة، لتجنّدها في سبيل مصالحها بعد ذلك، وبعد فشل هذه الأحزاب والقوى السياسية في إدارةِ الدولة، وتورطها في ملفاتِ الفساد والإجرام، وتبديدها ثروات البلد، وتعطيلها مصالحه الاستراتيجية، خدمةً لمصالح "الجارة"، وما ترتّب على ذلك من تردٍّ وانهيار في مجالات التعليم والصحة والإسكان، وزيادة نسب الفقر والبطالة وغيرها.
في ظلِّ هذا الوضع كان من الطبيعي والبديهي أن تخرج موجات من الاحتجاجات الشعبية، التي تُطالب بإصلاح ما تمّ إفساده، وتوفير الأمن والخدمات الصحيّة والتعليميّة، وتوفير فرص العمل، ودعم قطاعاتِ الزراعة والتجارة والصناعة، هذه القطاعات التي تمّ العمل على تدميرها وإفشالها من قبل جميع الحكومات المتوالية، وبصورةٍ مقصودة، ولأسبابٍ معروفة، لا نريد إعادتها في كلِّ موضع من مواضع هذا المقال، فتمّت مواجهة هذه الاحتجاجات بالقمعِ والقتل والاعتقالات والسجن للكثير من المشاركين فيها ومنظّميها.
على أيّة حال، كلّما تعرّضت هذه الاحتجاجات للقمع والوأد، كانت لا تفتأ تعود، بسبب استمرار سياساتِ الفشل والفساد الحكومي، إلى أن وصلت إلى مرحلةٍ اختلفت فيها صورة الاحتجاج (2019)، فقد تبنّت وطالبت الاحتجاجات الشعبية بإسقاط النظام، ومحاسبة كلّ من شارك في هذه العملية السياسية، التي وصلت إلى مراحل متقدّمة من التعفّن والفساد.
ينطبق مصصلح الطابور الخامس على سلوك القوى السياسيّة التي حكمت العراق من بعد 2003
غير أنّ مصطلح الطابور الخامس لم يستخدم كثيراً في هذه المرحلة، وتمّ الاستغناء عنه بمصطلحاتٍ ومفرداتٍ شعبوية، مثل "أولاد السفارة"، "جوكرية"... وغيرها من التسميات والمُفردات التي تمّ إطلاقها على المشاركين في هذه الاحتجاجات بغرضِ تشويه صورة الثورة والتخفيف من وطأتها والحدّ من انتشارها، من قادة المليشيات المُوالية لإيران ووليها الفقيه، هي التي عملت على قمع هذه الاحتجاجات بصورةٍ عنيفة ودمويّة لم يسبق لها مثيل.
إجمالاً، لو أردنا نحن استعمال هذا المصطلح (الطابور الخامس)، فيمكننا إسقاطه وتوظيفه لوصف سلوك قوى سياسية أو أنظمة حكم معيّنة، تمارس سلوكاً سياسياً وحكومياً في بلدٍ ما، يترتّب عليه تخادم ورعاية لمصالح بلد آخر، على حساب تحطيم وتدمير مصالح البلد الأم، نتيجة الولاء والانتماء الذي تفرضه اعتبارات عديدة لذلك البلد الآخر، من القوى السياسية.
وفي الحقيقة، يمكننا القول إنّ من البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان، أنّ الوصف الذي ذكرناه لمصطلح الطابور الخامس ينطبق بصورةٍ تامة ومُطلقة، على سلوك القوى السياسيّة التي حكمت العراق من بعد 2003.
عموماً قد تفرض السياسة على قوى سياسية في بلدٍ معيّن تعاوناً أو تعاطفاً مع بلدٍ آخر، لسببٍ اقتصادي أو عسكري، أو ربّما يكون هنالك تشابه في التوجّه الأيديولوجي والعقائدي بينهما، ولكن هذا التعاطف أو التعاون لا يكون ولا يُعدّ طبيعياً إلّا إذا كان فيه ما يصبّ في مصلحة البلدين، أمّا بخلاف ذلك، فلا يكون هذا التعاون أو التعاطف مع البلد الآخر سوى عمالة وتجسّس وخيانة، وليس إلا تجلّياً لسلوك الطابور الخامس.